فإن المشيئة لا تستلزم الجبر والقهر فهذا شيء شاءه الله تعالى، لكن المسئول عنه هو من فعله، أي: أن إبليس خاطبه الله تَعَالَى وأمره بالسجود مع الملائكة وهو يعلم عقوبة المعصية ومع ذلك ارتكبها بمشيئة الله، ولأن لله حكمة لكنه بإرادته وبطوعه خالف أمر الله وعصاه، ومن هنا طُرد ولُعن وأصبح رذيلاً مذموماً ويستدل عَلَى ذلك بقوله تَعَالَى عن نوح عَلَيْهِ السَّلام: (َلا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ َ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود:34] فما عَلَى الرَّسُول إلا البلاغ مع أنه يبين لهم ويدعوهم إِلَى الله، ويقول لهم إن ما آتيكم به من الحجج والبراهين لا ينفعكم إن كَانَ الله يريد أن يغويكم، لكن لو فرضنا أن الله يريد أن يغويهم -ولا شك أنه أغوى منهم الأكثرين وما آمن له منهم إلا القليل- لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس راضياً بغوايتهم بدليل أنه بعث فيهم نوحاً يجادلهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ليلاً ونهاراً سراً وعلانية يدعوهم، كما ذكر الله ذلك في سورة نوح واستخدم معهم شتى أنواع الدعوة فالله ليس راضياً عن شركهم وما فعلوه وكونه - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اقتضت حكمته ومشيئته أن يكون في النَّاس مؤمن وكافر، فإن هذا شيء نقرُّ به ونؤمن به، وهذا من حكمته التي لا نستطيع أن ندركها وأن نعرف أبعادها، يقول المُصنِّفُ نقلاً عن هذا الشاعر:
فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
لقد أحسن القائل، وهذه الأبيات التي قالها السلف الصالح في بيان الإيمان بالقدر وأن الله تَعَالَى مع أنه أعطانا مشيئة، إلا أن المشيئة النافذة هي مشيئته فَيَقُولُ: (فما شئت كَانَ وإن لم أشأ) ما شاء الله كَانَ وإن لم يشأ العبد أن يكون (وما شئت) أي: أنا المخلوق (إن لم تشأ لم يكن) فالمشيئة التي تنفذ هي مشيئة الله.
مقالات بعض السلف في القدر