فمثلاً: كون الكون متغيراً فهذه معلومة بدهية كل النَّاس يعرفونها، يتغير الليل والنهار والحياة والموت والمطر والجفاف، فالشيء البدهي المعلوم يستدل به ولا يستدل عليه، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لما كَانَ توحيد الربوبية بدهياً معلوماً، استدل به عَلَى توحيد الألوهية الذي فيه النزاع.
فالقرآن يجمع بين غاية الإعجاز اليقيني وغاية الإعجاز البلاغي العلمي في الأسلوب، فلا يصل به إِلَى الحق واليقين بعد مقدمات طويلة لا ثمرة ولا فائدة من ذكرها، فمثلاً العرب في الجاهلية كانوا يعظمون الشعر، ولذلك تجد المعلقات العشر، ولما فيها من البلاغة وقوة التعبير كتبوها وعلقوها في الكعبة، وسميت المعلقات لعظمتها ونفاستها، فالعرب أمة بيان يهمها البيان، فلما أنزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا القُرْآن الذي جَاءَ بالهداية، تضمنه كلام معجز لا يستطيع العرب ولا الإنس ولا الجن ولو اجتمعوا وكان بعضهم ظهيراً لبعض، أن يأتوا لا بمثله ولا بعشر سور من مثله ولا بسورة من مثله أبداً، فلما سمع أعرابي قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة يوسف: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً [يوسف:80] ما كَانَ منه إلا أن نزل من فوق البعير وسجد، وهو لم يؤمن ولم يدر أن في القُرْآن شيء اسمه سجود فتعجبوا وَقَالُوا: ما لك؟ قَالَ: والله هذا ليس من كلام البشر أبداً، فالجملة موجودة في كلام العرب (استيأس وخلص والنجوى والنجيء) لكن لم يوجد عَلَى الإطلاق في كلام العرب لا شعراً ولا نثراً أن جَاءَ بهذا المعنى فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً في ثلاث كلمات تدل عَلَى معنى طويل جداً، تدل عَلَى أنهم جادلوا الملك -الذي هو يوسف وهم لا يعرفونه- حتى تعبوا ثُمَّ اتفقوا عَلَى أنهم يخرجون إِلَى مكان بعيد ثُمَّ أخذوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ وماذا نفعل؟ كل هذه المعاني التي هي عبارة عن عدة حلقات أو عدة فصول من الحديث والنقاش جاءت