وقد تقدم اعتراض بعض الفلاسفة ونحوهم على الدعاء، وقولهم: إن الدعاء لا فائدة فيه، وقولهم: إذا كان هذا القدر قد قدر الله أنه يأتي، فسوف يأتي دعوت أو لم أدع، وإذا لم يقدره الله فلن يأتي ولو دعوت ثم دعوت، إذاً: فلا موجب للدعاء.
هذه شبهتهم.
وبعبارة أخرى إذا قلنا له مثلاً: ادع ربك أن يفرج عنك هذا الكرب، وأن يقضي عنك هذا الدين، وأن يزيل عنك هذا الهم والغم، وأن يوسع عليك في الرزق، وأن يصحك في بدنك، وأن يرزقك ولداً؛ فإنه يقول: إن كان الله قد قدر أنه يرزقني فسوف يرزقني سواء دعوت أم لم أدع، وإذا كان الله لم يكتب لي هذا الرزق فلا فائدة في هذا الدعاء، دعوت أو لم أدع، هكذا يقول أحدهم.
ونقول: هذا ليس بصحيح، وذلك لأننا نقول: إن ربنا سبحانه قد قدر لك هذا الأمر، ولكن جعل له سبباً، وجعل له سبباً وهو الدعاء، فكأنه كتب في الأزل أنك تدعو فترزق، ولو لم تدع لم ترزق، فيكون الدعاء سبباً من أسباب هذا الأمر الذي حصل لك.
ومعلوم أن الأسباب مرتبطة بمسبباتها، وأن الله سبحانه جعل في هذه الدنيا أسباباً وأمر العباد بمباشرتها، وجعل لتلك الأسباب تأثيراً، وإن كان قد قدر ذلك أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، وقد ذكر الشارح الأسباب الحسية، والأسباب الحسية لا ينكرها منكر، في ذلك أن الإنسان لو ترك الأكل وهو ينظر إليه ويجده حتى مات اعتبر قاتلاً لنفسه، لأن الله تعالى جعل هذا الأكل سبباً في بقاء الحياة، وقدر أن الإنسان يأكل من هذا الطعام فيعيش، وأمر بذلك في قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] وكذلك جعل الشراب سبباً في بقاء الحياة، ولو تركه الإنسان وهو قادر على أن يشرب حتى مات ظمأً لعد قاتلاً لنفسه.
وكذلك الأسباب الأخرى يشاهد أنها مؤثرة في مسبباتها، فالنكاح والوطء سبب في حصول الولد، فالله تعالى أمر بذلك بقوله {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ، {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] ، وذلك لأن النكاح سبب في الولد، فلو أن إنساناً قال: لا أتزوج، وإذا كان الله قد قدر لي أولاداً حصلوا وإن أتزوج، وإن لم يقدر لي أولاداً فلا فائدة في الزواج، نقول: ليس كذلك، فالله إذا قدر لك ولداً فإنه قد جعل سببه في النكاح، فعليك أن هذا السبب حتى يحصل ما قدره، وعليك أن تدعو الله فهو الذي يقدر ذلك.
ولو قال إنسان لا حاجة في أن أبذر هذه الأرض، فإن كان الله قدر أنها تنبت ويكون فيها قمح وزرع فذلك سيحصل، سواء زرعتها وسقيتها وحرثتها أو لم أفعل، وإذا قدر أنها لا تنبت فإنه لا يحصل فيها شيء، فلا فائدة في زرعي لها، فهل هذه المقالة صحيحة؟ لا شك بأنها مقالة باطلة؛ وذلك لأن الله تعالى قد أمر بالسبب الذي هو بذر الأرض وزرعها، وهو الذي إذا شاء جعله مثمراً، قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] ، فأثبت لهم حرثاً (تحرثون) ، وأخبر بأنه هو الذي ينبته ولو شاء لم ينبت، ولهذا قال {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:65] فهذا بيان أن الأسباب لها فائدة ولو كان ذلك مكتوباً أزلاً.
إذاً الدعاء سبب كما أن النكاح سبب، وكما أن البذر سبب والزرع سبب والغرس سبب، وهذا يبين أن هذه الأسباب تؤثر بإذن الله تعالى، فهناك من يعتمد على الأسباب كلها، وقد تقدم أن الاعتماد على الأسباب يعتبر شركاً، يعني أن الاعتقاد بأن السبب هو المؤثر يعتبر شركاً بالله، أي: أنه جعل لغيره تأثيراً ولم يدعه لتقدير الله، فالله تعالى أخبر بأنه هو الذي يخلق الخلق وهو الذي يرزقهم.