قال رحمه الله: [وأيضاً فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يؤمن من ذلك، وإنما يؤمن مما يمكن، فلما آمنه من الظلم بقوله: (فلا يخاف) علم أنه ممكن مقدور عليه.
وكذا قوله: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق:28] إلى قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] ، لم يعنِ بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم.
فعلى قول هؤلاء ليس الله منزهاً عن شيء من الأفعال أصلاً، ولا مقدساً عن أن يفعله، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله، بل فعله حسن، ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع، والممتنع لا حقيقة له! والقرآن يدل على نقيض هذا القول، في مواضع نزَّه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له، فعُلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم، وذلك كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ، فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً، وأنكر على من حسب ذلك، وهذا فعل، وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] ، وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] إنكار منه على من جوز أن يسوي الله بين هذا وهذا.
وكذا قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] إنكار على من حسب أنه يفعل هذا، وإخبار أن هذا حكم سيء قبيح، وهو مما ينزه الرب عنه] .
كل هذا رد على كلام هؤلاء المبتدعة، فإن من عقيدتهم أن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه مستحيل، فلا يمكن أن يحصل، وعلى موجب كلامهم يقال: إذاً هم آمنون، لأن المستحيل ممتنع الوقوع، فإذاً لا داعي لأن يؤمنهم من الظلم.
ويقال أيضاً: إذا كانوا آمنين من الظلم فكيف يؤمنهم منه بقوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] ، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31] ، ويقول: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] ؟! فهذا يدل على أنه ممكن، ولو كان شيئاً مستحيلاً لما خافوا منه، ولما أمنهم، فدل على أنه ما نزه نفسه إلا عن شيء مقدور له، ولكنه تعالى نزه عنه نفسه؛ لأنه لا يليق؛ ولأنه وصف للظلمة الذين يفعلون ما لا يستحسن، فيقصرون ويقتلون ظلماً، ويحبسون وينتهبون، فيقال: هؤلاء ملوك ظلمة، وهؤلاء أمراء ظلمة؛ لأنهم يبطشون في الناس بغير حق؛ فلذلك نزه الله نفسه عن مثل هذه الأفعال.