قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي أنهم قالوا: كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق: فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل، وسدت باب السؤال.
وطائفة أثبتت كسباً لا يُعقل! جعلت الثواب والعقاب عليه.
وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين، ومفعول بين فاعلين! وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه! وهذا السؤال هو الذي أوجب هذا التفرق والاختلاف.
والجواب الصحيح عنه أنه أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقاً لله تعالى، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها؛ فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاًَ.
ويبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ يقال: هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه؛ فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] .
فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] ، وقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ، وقال الله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:41-42] .
والإخلاص: خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته، فخلص لله؛ فلم يتمكن منه الشيطان.
وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص، وهي محض العدل] .
في هذا السؤال الذي يردده المعتزلة أو يردده الجبرية وهو قولهم: إذا كان الله خلق فينا المعاصي فكيف يعذبنا؟ وإذا كان الله لم يهدنا بل أضلنا فكيف يعذبنا؟ وهذا السؤال قد يكثر الذين يرددونه، وإذا نصحت أحدهم، يقول: الله ما هدانا، وإذا لم يهدنا الله فأنت لا تهدينا! وكثيراً ما يقول: الله هو الذي أضلنا أو كتب علينا ذلك، فإذا عذبنا فقد ظلمنا! أو نحو ذلك من العبارات الشنيعة البشعة.
ولا شك أنا لسنا بحاجة إلى مناقشة تلك الأقوال السيئة، قد عرفنا مما ذكر الشارح أن من أقوالهم الباطلة قول من لم يجعل للعبد أي فعل ولا اختيار.
وقول من جعل العبد مستقلاً.
وقول من أثبت له كسباً، ولكن لا حقيقة لذلك الكسب.
وقول من جعل الفعل صادراً عن فاعلين، والقدرة صادرة عن قادرين، يعني: جعلوا الفعل مكوناً من قدرتين.
ونحن نقول: لا شك أن الإنسان أعطاه الله هذه القوة، وهذه الهمة، وهذه المباشرة، وهذه القدرة يزاول بها الأعمال، وتنسب إليه، ويثاب بسببها أو يعاقب، مع أنه قادر على أن يضله، وقادر على أن يعجزه، فهو الذي أمده وقواه، فلأجل ذلك تنسب الأفعال إلى الإنسان مباشرة، وتنسب إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً وتقديراً، فيقال: هي خلق الله؛ من حيث إنه قدرها، وقوى العباد عليها، وهي أعمال العباد، من حيث إنهم باشروها، وفعلوها بأبدانهم، فنسبت إليهم، ونسبت إلى الله تعالى، ولا منافاة بين النسبتين.
ثم ذكر أن الله تعالى يعاقب العباد في الدنيا، ويعاقبهم أيضاً في الآخرة على السيئات، فيقول الشارح: إن هذه العقوبة على الذنوب، وإن الأصل أنه عاقبهم على هذه الذنوب بذنوب أخرى، فلما أذنبوا كان من عقوبتهم بأن أذنبوا ذنباً آخر ثم ذنباً ثالثاً، ثم ذنباً رابعاً وهكذا، واستمرت فيهم السيئات وتمادوا فيها، فيكون بسبب الوقوع في هذا الذنب أن الله خلى بين العبد وبين نفسه، وخلى بينه وبين هواه، وسلط عليه أعداءه من شياطين الإنس والجن، فلما تمكنوا منه صرفوه عن الهدى، وإن كان ذلك بتقدير الله، ولما صرفوه واستحوذت عليه الشياطين كانت أعماله سيئات؛ عقوبة له على سيئة اقترفها سابقاً.
وقد نقل الشارح هنا أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فإذا عمل العبد حسنة قالت الحسنة بعدها: اعملني، وإذا أتى سيئة قالت السيئة بعدها: اعملني، فيتتابع المسيئون في السيئات، والمحسنون في الحسنات.
وإذا قالوا: إن السيئة الأولى عقوبة، فعلى أي شيء؟ ومادام أنه وقعت منه هذه السيئة فكيف سلطت عليه؟ وكيف خلقت فيه؟ وكيف فعلها ولم يسبقها سيئة؟ أجاب الشارح: بأنها عقوبة على ترك الإخلاص، وعقوبة على ترك الأعمال الصالحة التي أمر، وكلف بها، وما ذاك إلا أننا خلقنا لعبادة الله، فإذا انشغلنا عن هذه العبادة فذلك إما في لهو وبطالة، وإما في غفلة، وإما في إقبال على شهوات تفوت عليك الخير، فهذه الغفلة وهذه الشهوات وهذه الإضاعة للأوقات تعتبر ذنباً، فيستحق من فعله أن يقع منه ذنب آخر، عقوبة على ذلك الذنب الذي هو الترك.
فالله تعالى خلق العباد لأجل أن يعبدوه وحده، وأن يشكروه، وأن يعرفوا حقه عليهم، فلما خلقهم للعبادة أمرهم بالإخلاص في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] ، فإذا تركوا هذه العبادة في وقت من الأوقات عد ذلك ذنباً وقع منهم، وإن لم يكن سيئة، ولكنه ترك لعمل صالح، فاستحقوا بهذا الترك أن يتسلط عليهم الأهواء والأعداء فيوقعونهم في الذنوب، وتتابع عليهم السيئات، وتتابع منهم.
فهذا تعليل علل به العلماء في عقوبة السيئة.
يعني قالوا: كيف يعاقب الله على السيئة وهو الذي خلقها؟ فأجاب: بأنه ولو كان هو الذي قدرها لكن لما كان العبد هو الذي باشرها عوقب عليها.
والعقاب الذي في الدنيا معروف أنه قد يكون عقاباً حسياً، وقد يكون عقاباً معنوياً.
فالعقاب الحسي هو مثل ما ذكره الله بقوله: ما أنزل الله على المعذبين: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40] .
وأما العقوبات المعنوية على الذنوب فهي: تسليط الأعداء عليهم، وكذلك تسليط الأهواء عليهم، وحرمانهم من الطاعة، فإذا رأيت المكب على المعاصي فاعلم أنه معاقب، وأن حرمانه من طاعة الله عقوبة، وإذا رأيت المنهمك في الشهوات الذي فوت الأوقات فاعلم أنها عقوبة له، وإذا قال: أنا ما أذنبت ولا كفرت ولا عصيت! فكيف يعاقبني بأن يوقعني في هذه المصائب وهذه الذنوب؟ فنقول له: أولاً: إنك أذنبت بغفلتك؛ حيث أضعت وقتاً ثميناً في الغفلة.
ثانياً: لتركك العمل، وكان الواجب عليك أن تشغل وقتك بأعمال صالحة وبحسنات، فلما لم تفعل كنت مذنباً، وكان عقوبة هذا الذنب أن توالت عليك الذنوب، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذنوب تؤثر في القلوب وتعميها وتصدها عن الهدى، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، فإن عاد عادت، حتى يعلوه السواد، وذلك الران: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ) فإذا غلبه هذا السواد الذي هو بسبب المعاصي عند ذلك تثقل عليه الطاعات، وتخف عليه المحرمات.
هذا تلخيص ما ذكره الشارح من أن عقوبة السيئة السيئة بعدها، والله أعلم.