هذه مناقشة لأدلة الفريقين المتطرفين، وهمنا هنا أن نعرف الجواب.
وأما شرح أدلتهم والتوسع فيها، وكيفية استدلالهم، وتوجيهها، فلا حاجة لنا إلى التوسع فيه.
وقد عرفنا أن كلا القولين -قول الجبرية وقول المعتزلة- في طرفي نقيض، وكلاهما لا يزال لهما بقية يقولون بمثل هذه الأقوال، ولا تزال أيضاً مؤلفاتهم يعنى بها وتنشر وتحقق، وينفق عليها الأموال، مع أنها سبب في ضلال كثير من الناس.
ويدعون أنهم بذلك يقوون حجتهم ومعتقدهم الذي اعتقدوه، ويستدلون بأن الله تعالى يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] وقالوا: هذا دليل على أن الفعل ليس للإنسان، وإنما هو لله؛ لأن الله هو الذي رمى.
وقد أجاب الشارح بأن التقدير: وما أصبت الهدف ولكن الله هو الذي وفق لإصابته، فأنت الذي رميت والله هو الذي وفق للإصابة.
ونحن نعرف القصة التي حصلت في غزوة بدر، والقصة التي حصلت أيضاً في غزوة حنين؛ وذلك أنه لما تواجه المشركون مع المسلمين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من حصباء ورمى بها في وجوه القوم، معلوم أن رميته لو كانت بمجرد قوته لم تذهب مثلاً إلا نحو عشرين متراً أو ثلاثين، ولكن هذه الرمية وصلت إلى جميعهم أو أكثرهم؛ بحيث إنها دخلت في أعينهم، ودخلت في أفواههم وأنوفهم، وأعمت عليهم الطرق، مع أنها كانت حصيات قليلة في يده رمى بها وقال: (شاهت الوجوه) ، فالله تعالى هو الذي أوصلها، وهو الذي وفق لإصابتها، فمادام أن الله أثبت الرمي بقوله: (إِذْ رَمَيْتَ) أي: حركت يدك بتلك الحجارة وقذفتها، فهذا دليل على أن الفعل أصله من الإنسان، والله تعالى هو الذي يسدده ويوصله، وهو الذي يدفع ويحرك همة العبد إلى أن يفعل ذلك الفعل.
وكثيراً ما يكون المسلمون قلة، وإذا وجهوا سهامهم إلى المشركين أصابتهم ولو كانوا بعيدين؛ لأن الله يسدد سهامهم فتصيب العدو، وأما سهام أعدائهم فإنها تخطئهم وتذهب يميناً أو يساراً ولا تصيبهم؛ لأن الله تعالى يصرفها.
إذاً: من الغزاة الرمي، ومن الله التسديد والإصابة.
وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ، وهذه الآية من أدلة الجبرية التي استدلوا بها.
ومن أدلتهم في أن العمل ليس سبباً في دخول الجنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) قالوا: هذا دليل على أن الأعمال ليس لها أثر، وأن الأعمال ليست هي التي تسبب دخول الجنة؛ وعلى هذا فالأعمال ليست من الإنسان، والإنسان ليس له أي عمل، وليس له عندهم حركة، بل هو مدفوع إلى هذه الحركة ومغلوب على أمره، ولا يقدر أن يحرك باختياره أي حركة، فلا يحرك إصبعاً ولا رأساً ولا لساناً ولا يداً ولا قدماً، بل هو متصرَف فيه، وتحركه إرادة الله كما تتحرك الشجرة بدون اختيارها.
وصلى الله عليه وسلم أن هذا الحديث أراد به النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمالنا وإن كثرت لا تعادل نعم الله، فنعم الله علينا كثيرة، ولو عملنا ما عملنا فإنها قليلة بالنسبة إلى ما ينعم الله به علينا، فأعمالنا لو كثرت لم تكن سبباً وحيداً في دخول الجنة، كما ورد في الحديث: (أنه يؤتى برجل قد عمل أعمالاً صالحة أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: يا ربي، بل بعملي-أليس هذه الأعمال التي عملتها تحصل لي الجنة والثواب؟ - فيقول الله: حاسبوا عبدي على نعمي، يقول الله لنعمة البصر: خذي حقك -يعني: من أعماله- ولنعمة السمع: خذي حقك، ولنعمة النطق، ولنعمة العقل، ولنعمة البطش، ولنعمة القوة، ولنعمة الرزق، ولنعمة العمل، ولنعمة الصحة، وتبقى نعم كثيرة كنعمة الهداية ونعمة التوفيق ونعمة الإعانة- فيقول: أدخلوا عبدي النار، فعند ذلك يقول: بل يا ربي! برحمتك) .
فعُرف بذلك أن العمل لا يستقل بشأن دخول الجنة إلا إذا رحم الله العباد.
وإذا قيل: قد وردت أدلة في ترتب الجزاء على الأعمال وهي التي استدلت بها المعتزلة، وجعلوا عمله سبباً وحيداً في دخول الجنة، واستدلوا بقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] ، وقوله: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ونحو ذلك.
فنقول: صحيح أن العمل سبب؛ ولكن رحمة الله مع ذلك السبب؛ فيدخل الجنة بسبب عمله، ولكن ذلك برحمة الله تعالى فهو أرحم الراحمين.
وكما جاء في الحديث الذي فيه: (إن الله خلق الرحمة مائة جزء، كل جزء طباق ما بين السماء والأرض، أنزل منها جزءاً واحداً في الأرض، وبذلك الجزء تتراحم الخليقة بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة ضمه الله إلى تلك الأجزاء فيرحم بها عباده يوم القيامة) ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن واسع رحمة الله لما رأى امرأة تضم ولدها إلى صدرها وترضعه بعد أن وجدته، فقال: (أترون هذه قاذفة ولدها في النار؟ قالوا: لا، والله! وهي تقدر على تخليصه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) .
فإذاً: رحمة الله للعباد أوسع لهم، كما ورد في الحديث: (لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) .
فعرفنا بذلك ضعف ما استدل به هؤلاء وهؤلاء.