قال رحمه الله: [وما قالته القدرية بناء على أصلهم الفاسد، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون: إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان، بل هذا بنفسه رجح الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية، كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفاً، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق.
وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية خصه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، فالقدرية يقولون: هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق، وهو بمعنى: البيان وإظهار دلائل الحق، والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن؛ ولهذا قال: (أولئك هم الراشدون) والكفار ليسوا راشدين، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125] ، وأمثال هذه الآية في القرآن كثير، يبين سبحانه أنه هدى هذا وأضل هذا، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف:17] ، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان إن شاء الله تعالى] .
رد الشارح على القول الذي حكاه عن المعتزلة؛ لأنه حكى في أول الكلام ثلاثة أقوال: القول الأول: قول الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور، وليس له اختيار، وأنه بمنزلة الشجرة التي تحركها الرياح، فهو مدفوع إلى الزنا، وهو مدفوع إلى الربا، وهو مدفوع إلى السكر، وهو مدفوع إلى الصلاة، وليس له أي اختيار!! والقول الثاني: قول المعتزلة: وهو أن العبد هو الذي يخلق فعله ويزاوله، وليس لله أية قدرة على فعله!! والقول الثالث: قول أهل السنة: وهو أن للعبد قدرة واختياراً، ولكنها مغلوبة بقدرة الله وباختياره، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهدايته للمؤمنين تعتبر فضلاً منه وكرماً، وإضلاله للكافرين يعتبر عدلاً منه بدون ظلم، قال الله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، وكذلك امتن على هؤلاء، وعلم أنهم أهل للفضل وأهل للنعمة وأهل للهداية؛ فهداهم وسددهم.
أما الجبرية فعندهم أنه ليس له أي اختيار، بل هو بمنزلة المرتعش، والمعتزلة عندهم ليس لله أية قدرة، بل العبد هو الذي يضل نفسه، وهو الذي يهدي نفسه، ونفوا مدلول الآيات: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:36-37] .
وقد عرفنا الرد عليهم بمثل هذه الآيات: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125] ، هذا أنعم عليه، وهذا خذله، وإنعامه على هذا يعتبر فضلاً، ويعتبر خذلانه لهذا عدلاً: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع