قال رحمه الله: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئا بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه.
وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه، قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك] .
هذه حجة على الدهرية والشيوعية ونحوهم الذين ينكرون واجب الوجود، فيحتج عليهم بحجة عقلية، فيقال لهم: إن هذه الموجودات حادثة، والحادث لا بد له من محدث، وإذا قلنا: إن المحدث الذي أحدثه يفتقر إلى محدث آخر لزم التسلسل، فيقال: إذاً هناك محدث لها وهو الله تعالى.
ويقال أيضاً: إن الموجودات قسمان: واجب الوجود، وممكن الوجود، وواجب الوجود هو الخالق، وممكن الوجود هو المخلوق؛ لأنه يمكن أن يوجد ولأنه يأتي عليه الفناء.
وتنقسم أيضاً إلى قسمين: غني بنفسه لا يحتاج إلى غيره وهو الخالق، وفقير بالذات مفتقر إلى غيره وهو المخلوق، فالمخلوق مفتقر ووصف الفقر لازم له، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في قصيدة له: والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي يقول: إن الفقر وصف ذاتي للمخلوقات، وأن الغنى الذاتي وصف للخالق تعالى، فالله غني بذاته، والمخلوق فقير بذاته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] .
وإذا سألنا العاقل عن هذه الأشياء، اضطر إلى الاعتراف بأن هناك خالقاً غنياً قائماً بنفسه، قديماً أزلياً غير مسبوق بعدم، ولا يأتي عليه الفناء، وذلك أخذاً بعين الاعتبار من هذه الموجودات التي وجدت وتفنى، أن الموجود لا بد له من موجد، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فإذا لم يكونوا خلقوا من غير شيء، تعين أنهم مخلوقون من شيء، وإذا لم يكونوا هم الخالقين تعين أن لهم خالقاً خلقهم، فليس الإنسان يخلق نفسه، وإلا لحرص على أن يكمل خلقه، وكذلك ليس هو يخلق ولده، وإلا لحرص على أن يكون ولده على أحسن ما يكون، فنحن نشاهد أن الإنسان يولد له ولد مشلول، ويولد له أولاد ناقصو الخلقة، ويولد له من هم ناقصو العقلية، وكذلك قد يولد له ذكور، أو إناث، أو إناث وذكور، وذلك دليل على أنه ليس هو الذي يختار، وليس هو الذي يقدر لنفسه، بل هناك من يخلق هذا الخلق ويقدره، وهو الخالق وحده، فعرف بذلك أن هذا الوجود مفتقر إلى موجد واجب الوجود.
إذاً: ما دام أن هذا الوجود مفتقر إلى موجب، فيلزم أن يكون ذلك الموجد موصوفاً بصفات تناسبه لا تشبه صفات المخلوق، وإلا لأتى عليه ما يأتي على المخلوق من الفناء.
إذاً: فهناك فرق كبير بين الخالق والمخلوق، فالخالق حي لا يموت، والمخلوق يموت، والخالق قديم غير مسبوق بعدم، والمخلوق مسبوق بعدم، يخلق ثم يفنى، كما هو مشاهد، والخالق غني بنفسه، والمخلوق فقير بالذات لا غنى له عن ربه طرفة عين.
فهذا يحتج به على هؤلاء النفاة الذين ينكرون أن يكون للوجود موجد، ويسندون الأشياء إلى الطبائع، تعالى الله عن قولهم، والطبائع لا بد لها من طابع، فليس هناك معتمد يعتمدونه ويستندون إليه إلا عقول فاسدة، فلا يلتفت إلى ترهاتهم وأباطيلهم.