اختلفوا في الموزون ما هو على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذي يوزن هي الأعمال، ولو كانت أعراضاً فيقلبها الله تعالى أجساماً ثم توزن؛ لأن الأعراض ليس لها جرم، مثلاً كلمة (الحمد لله) ليس لها جرم حتى توزن؟! فهي عرض، وكذلك الصلاة، فالصلاة قد أخبر النبي صلى الله عليه سلم بأنها تتجسد (إذا صلى الرجل فأحسن صلاته صعدت إلى السماء ولها نور، وتفتح لها أبواب السماء، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى وأساء صلاته صعدت إلى السماء ولها ظلمة، وتغلق دونها أبواب السماء، فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخَلِق، ويضرب بها وجه صاحبها) .
هل نحن نبصر الصلاة إذا صعدت؟ لا نبصرها فهي عرض، ولكن الله تعالى يقلب الأعمال أجساماً، فصيامك يكون جسماً وجرماً، وصلواتك وقراءتك وأذكارك وأدعيتك يقلبها الله أجساماً كما أن هذه الخشبة جسم، وهذه السارية جسم لها جرم ولها وزن، ولكن الكلام ليس له جرم، ولكن يقلبه الله فيجعله ذا جرم، فلذلك يقول في الحديث: (الحمد لله تملأ الميزان) ، ويقول: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان) ، وقوله: (ثقيلتان) يدل على أن كلمة (سبحان الله وبحمده) توزن، يعني: يجعلها الله جرماً، ولا يستعصي ولا يخرج عن قدرة الله شيء، فهو قادر أن يقلب الأعراض أجساماً.
القول الثاني: أن الذي يوزن هو الصحف، وتثقل الصحف وتخف بسبب ما كتب فيها، ودل على ذلك الحديث الذي مر بنا، فإن هذا رجل كتبت عليه الملائكة سيئات كثيرة -تسعة وتسعين سجلاً- والسجل: هو الصحيفة التي يكتب فيها كالسجلات التي عند القضاة تملأ بالقضايا، يقال: سجل في كذا السجل رقم كذا هذه السجلات تطوى طيًّا، ثم إذا نشرت كانت مد البصر، فكان له تسعة وتسعون سجلاً كلها سيئات، فلما وقف على هذه السجلات سأله الله: هل تنكر شيئاً من هذا؟ فلا ينكر، يقول: هل ظلمك الكرام الكاتبون الحفظة، وكتبوا عليك ما لم تقل؟ لا يستطيع أن ينكر، ولا يقول: ظلموني، يقول: هل لك عذر؟ ما له عذر، هل لك حسنة تقابل هذه السجلات وتمحوها، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ؟ فينبهر وينبهت ويقول: لا، ليس لي حسنات.
وكأنه أيس من النجاة، وأيقن بالعذاب؛ لكثرة ما كتب عليه، فإنه رأى هذه السيئات التي دونت عليه ولا يستطيع أن ينكرها، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49] ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] ، فيقول الله: بلى لك عندنا حسنة واحدة، تخرج له هذه البطاقة - والبطاقة: الورقة الصغيرة مثل الكف أو نحوه- مكتوب فيها: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، ولكن قالها عن صدق، قالها عن عقيدة، قالها عن يقين، وختمت بها أيامه، وختمت بها أعماله، وخرج من الدنيا وهو على هذه الحسنة التي أثرت فيه وفي قلبه، فلما رأى هذه البطاقة استصغرها بالنسبة إلى هذه السيئات الكثيرة، فقال: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فالله تعالى يقول: إنك لا تظلم، ونصب الميزان الذي له كفتان، وجعلت البطاقة في كفة، وجعلت تلك السجلات في كفة، فعند ذلك طاشت -يعني: خفت- السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء، فكان ذلك سبباً في سعادته.
ومعلوم أن كثيراً من الذين يقولونها قد يعذبون وقد تخف موازينهم؛ وذلك لأنهم لم يقولوها عن يقين، ولم تؤثر في عقائدهم، ولم تصدر عن قلب مصدق بها؛ فلأجل ذلك تخف موازينهم، أما هذا فقد قالها عن علم وعن يقين وعن إخلاص وعن معرفة وعن تقبل؛ فأثرت في قلبه، ووقعت موقعاً فثقلت موازينه فسعد، ويصدق عليه أنه من الذين ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية.
القول الثالث: أن العامل نفسه يوزن، فالرجل نفسه يوزن، ويثقل إذا كان قلبه ممتلئاً إيماناً، ويخف إذا كان قليل الإيمان، واستدل على ذلك بهذه الآية الكريمة في آخر سورة الكهف، وهي قول الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] ، وإن كانت محتملة أن المراد: لا نقيم لهم قدراً، ولكن ظاهرها أنهم يوزنون، ولكن لا يكون لهم وزن ظاهر، ويؤيد هذا الحديث الذي فيه (يجاء بالرجل العظيم السمين -الأكول الشروب- لا يزن عند الله جناح بعوضة) لو وزن كان أخف من جناح البعوضة.
وهذا دليل على أن العامل يوزن، وأنه يثقل إذا كان تقياً كما في قصة ابن مسعود رضي الله عنه حين صعد مرة على شجرة الأراك ليقطع منها سواكاً، ولما صعد رآه بعض الصحابة وعجبوا من دقة ساقية، فجعلوا يضحكون من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لهما في الميزان أثقل من جبل أحد) ، فدل على أن العامل نفسه يوزن؛ فيثقل إذا كان من أهل السعادة، ويخف إذا كان من أهل الشقاوة.
وقد ذكر الشارح أن الوزن بعد الحساب، يبدأ أولاً بالحساب؛ وذلك بأن يقال: حاسب نفسك، هذه صحائفك، هذه حسنة وهذه سيئة قابل بينهما، وبعدما يحاسب ويقر بما له وبما عليه، بعد ذلك توزن هذه الأعمال حتى يعرف مقدارها، وحتى يحقق في أمرها، وإذا وزنت عرف من يستحق أن يكون سعيداً لكون حسناته ثقيلة، ومن يكون بخلاف ذلك؛ لأن الحساب إنما هو لتمييز الحسنات من السيئات، ولكن الميزان يميز الحسنات، فتكون الحسنات كثيرة وخفيفة، وتكون قليلة وثقيلة، كصاحب البطاقة، قد يكون هناك إنسان له أذكار وأوراد وأدعية وقراءات كثيرة، ولكنها خفيفة، وآخر أذكاره قليلة، ولكنها ثقيلة؛ بسبب صدورها عن الإيمان الراسخ المتمكن في القلب.