هذا الكلام يتعلق بالكبائر؛ لأن الكلام حولها في قول صاحب المتن: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون) ، يعني: ونعتقد أن أهل الكبائر إذا دخلوا النار فإنهم لا يخلدون، بل يمكثون فيها بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون، ولما ذكر أن هذا قولنا في أهل الكبائر، احتيج إلى معرفة الكبيرة ما هي؛ وذلك لأن الله تعالى قسم الذنوب إلى قسمين: كبائر وسيئات، فقال تعالى في سورة النساء: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] فجعل هناك كبائر وهناك سيئات، ولا شك أن الكبائر سيئات ولكنها كبيرة، والسيئات التي دونها تسمى صغائر، وقال تعالى في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم:32] فقسمها إلى كبائر وإلى لمم، واللمم هو مقدمات الذنوب، وقد ثبت عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واللسان يزني وزناه النطق، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، فجعل التصديق أو التكذيب بالفعل الذي هو الزنا بالفرج، وجعل هذه مقدمات، وهي اللمم؛ وذلك لأن تحريمها من باب سد الذرائع، لأنها من باب الوسائل، فالأصل هو الزنا الذي حرمت هذه الأشياء لأجله.
ولاشك أن الزنا من الكبائر فقد توعد الله عليه بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ، وقرنه بالشرك والقتل فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] فجعل هذه الأشياء مما يتوعد عليه بالآثام وبالعذاب.
وبذلك نعرف أن الذنوب قسمان: كبائر وصغائر، فإذا قلت: ما حد الكبيرة، حتى نتجنبها؛ فتغفر لنا الصغيرة؟ نقول: إن الكبائر هي الذنوب الفاحشة التي سميت فاحشة، والتي توعد عليها، إما بحد في الدنيا، وإما بعذاب في الآخرة، فمثلاً: الشرك والقتل والزنا والربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات؛ هذه قد توعد عليها بعذاب في الآخرة.
ومثلاً: السرقة والقذف والسكر، هذه قد جعل فيها حد في الدنيا، وهو الجلد، أو نحو ذلك، فإذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب) ، وقوله: (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) ، نعد النياحة من الكبائر، وكذلك إذا أطلق على الذنب أنه كفر كقوله: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) ، أو (اثنتان في الناس هما بهم كفر) ، أو: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ، وأشباه ذلك، فهذه كلها من الكبائر.