قال الشارح رحمه الله: [والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، ويجب على كل من كان قادراً عليه ليعبد الله مخلصاً له الدين، وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك: من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث وغير ذلك، وإما أن يجب بسبب حق الآدمي، فيختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه من قضاء الديون ورد الأمانات والغصوب، والإنصاف من المظالم: من الدماء والأموال والأعراض، وحقوق الزوجة والأولاد وصلة الأرحام، ونحو ذلك، فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو، بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة، فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها، ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار، وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار.
وما يجب حقاً لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد، وفيها معنى العقوبة، ولهذا كان التكليف شرطاً في الزكاة، فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى، على ما عرف في موضعه] .
يجيب الشارح هنا عن سؤال مقدر تقديره: لماذا اقتصر في الإسلام على الأركان الخمسة ولم يذكر بقية الخصال؟ أي أنه لم يقل: الإسلام أن تجاهد في سبيل الله، وأن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وأن تصل رحمك، وأن تبر والديك، وأن تحسن إلى جيرانك، وأن تحب المسلمين، وأن تسلم على من سلم عليك، وأن تعود المرضى، وأن تتبع جنائز الموتى ونحو ذلك، لماذا لم يذكر هذه الخصال في الإسلام؟ ولماذا لم يذكر المتروكات؟ لماذا لم يقل: إن من الإسلام أن تترك الزنا، وأن تترك القتل، وأن تترك الشرك، وأن تترك السرقة، وأن تترك الغيبة والنميمة، وأن تترك الخيانة والإثم، وأن تترك السباب والفحشاء وما أشبه ذلك؟ فلماذا لم يذكر هذه الأشياء في الإسلام؟! نقول: لا شك أن هذه من خصال الإسلام سواء كانت أفعالاً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض في الله، والولاء له والبراء له، وما أشبه ذلك أو كانت من التروك، كترك المنكرات والمعاصي ونحوها، لا شك أنها من خصال الإسلام، ولكن يجاب عنها بما أجاب به الشارح، فالأركان الخمسة تستدعي غيرها، ولا شك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا حافظ العبد عليها فإنها تحبب إليه الأعمال الخيرية، فتراه يحب النفقة في سبيل الله، وتراه يحب الخير، ويحب أهل الخير، وتراه يتعلم العلم ويعلمه، وتراه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبر والديه، ويبذل السلام للعالم، ويأمر بما يصلح المسلمين، ويفشيه فيما بينهم، وتراه يصل الرحم ويحسن الجوار، ويحسن إلى المماليك وما أشبه ذلك، وتراه يبتعد عن المنكرات؛ لأن صلاته تنهاه، فتراه يحفظ لسانه، ويحفظ عينيه عن النظر للحرام، ويحفظ أذنيه عن سماع الملاهي وما أشبه ذلك، ويحفظ يديه عن البطش بالآثام ونحو ذلك، ويحفظ قدميه عن المشي بهما إلى ما حرم الله، لماذا؟ لأن صلاته أمرته بالخير ونهته عن الشر، فالصلاة سبب من الأسباب جعلته يحب الخير ويكثر منه.
وهناك أيضاً جواب ثاني وهو: أن هذه الخصال قد لا تجب على كل فرد، بخلاف الصلاة فإنها واجبة على كل فرد، والزكاة على كل فرد توافرت فيه شروطها، والصوم على كل فرد، والحج على كل فرد مستطيع، أما الجهاد فإنه على القادر، وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وكذلك الأمور التي تتعلق بالغير، فمثلاً بذل السلام فرض كفاية، فلو سلم واحد من عشرة كفى، وإذا رد واحد من العشرة كفى، وكذلك الخصال الخيرية لا تجب على كل أحد، فقد لا يجب على كل أحد أن يبر أو يصل، أو ما أشبه ذلك، فوجوبها إنما هو على الشخص الذي اتصف بتلك الصفات، فهذا جواب.
ومن الأجوبة أيضاً: أن هناك أعمالاً لا تجب على الإنسان بإيجاب الشرع، وإنما تجب عليه بإيجاب نفسه، كالكفارات والنذور التي أوجبها على نفسه، مثلاً: إذا أوجب على نفسه أضحية، أو أوجب على نفسه صدقة، اعتبر هذا مما أوجبه على نفسه ولم يوجبه عليه الشرع، إنما الشرع سن له الصدقة، وسن له الأضحية، وسن له أنواع البر المتعدية، أما كفارات النذور، وكفارات الأيمان وما أشبهها، فهذه لا تجب على كل فرد، إنما تجب على من أوجبها على نفسه، أو أتى بالسبب الذي أوجبه على نفسه.
إذاً: الناذر هو الذي أوجب على نفسه كفارة يمين إذا لم يفِ بنذره، والحالف هو الذي أوجب على نفسه كفارة إن حنث، والمظاهر هو الذي أوجب الكفارة على نفسه، وهكذا كفارة القتل، وهكذا كفارة الوطء في نهار رمضان وما أشبه ذلك، لا شك أن هذه إنما أوجبها الإنسان على نفسه.
وبكل حال فإن الأشياء التي يكلف بها الإنسان إما أن تكون من الخصال الخيرية التي ليست واجبة ولكنها مشروعة وفيها أجر كالأذكار، والأدعية، وقراءة القرآن، والاعتكاف في المساجد، والإتيان بالنوافل قبل الصلوات وبعدها، وأنواع التطوعات، وكذلك أنواع الصدقات البعيدة عن الواجب الذي هو الزكاة، وما أشبه ذلك؛ فهذه خصال خيرية يحبها الشرع، وحبه لها يظهر أنها طاعة، فإذا علم أنها طاعة وأن الله يحبها أكثر منها.
وأما التروك والمحرمات فإن الذي يتركها هو الذي يعرف عاقبتها، ويعرف الآثام التي تترتب عليها، فإذا علم العبد أن الله تعالى يعاقبه على الشرك ويعاقبه على القتل وعلى الزنا وعلى المسكرات والمخدرات ونحوها، ويعاقبه على القذف وعلى السباب والشتم واللعن والغيبة والنميمة ونحو ذلك، ويعاقبه على أكل الحرام كأكل الربا وأخذ الرشا والمعاملات المحرمة وما أشبه ذلك، ويعاقبه على سماع الغناء واللهو وما أشبه ذلك؛ تركها، وهذه أيضاً ليست من الضروريات، فليس كل أحد يتعامل بالمعاملات المحرمة، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يغتاب وأن ينم ويسب ويكذب، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يرى الصور والملاهي، وينظر إلى العورات وما أشبه ذلك، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يسمع الغناء واللهو والباطل والكلام السيئ وما أشبه ذلك، فليست من الضروريات.
فإذاً: لما كان فيها مفاسد، وليس فيها مصالح، والإسلام مشتمل على النهي عنها، وعلى الزجر والعقوبة عليها؛ وجب على المسلم أن يتركها، فإذا أسلم العبد وعرف أن هذه الخصال التي هي أركان الإسلام هي السبب في أنه مسلم، عرف أن الإسلام لا يجتمع هو وضده، وأن الإسلام ينهى عن الآثام؛ فاجتنب الآثام كلياً، واستكثر من الطاعات كلياً، وبذلك يتم إسلامه وإيمانه.