مما يتعلق بالأمور الاعتقادية مسألة الإيمان بالله تعالى وما يلحق به، ولا شك أن الإيمان هو السمة والصفة التي تميز بها أتباع الرسل، ولأجل ذلك يدعو الله تعالى من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه بهذا الاسم، فيناديهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] ، ولم يرد: يا أيها الذين أسلموا، ولا: يا أيها الذين صدقوا، ولا: يا أيها الذين اتبعوا.
بل تتابعت الآيات التي فيها الأوامر بهذا السياق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) .
ولاشك أن هذا الوصف ميزة لمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بسنته، وصدقه حق تصديقه، ووطن نفسه على العمل بما جاء به.
ولأجل ذلك يوجه الله الأوامر لهؤلاء تارة بالأعمال وتارة بالاعتقادات، فمن الأعمال قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] وما أشبه ذلك.
ومن العقائد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] ، فهذا أمر بالاعتقاد، والمعنى: صدقوا بذلك كله، ومعلوم أن من صدق بالكتب المنزلة وبالكتاب الذي بين أيدينا؛ ظهرت عليه آثار هذا التصديق بالاتباع والعمل، وأما من لم يتبعه ولم يعمل به؛ فإنه لا يصدق عليه أنه مؤمن، فلابد أن يكون للإيمان آثار وعلامات على من ادعى تصديقه.
وقد تكلم العلماء على هذا المسمى، وجعلوا هذا النوع تحت عنوان (أسماء الإيمان والدين) ، وجعلوا هذه المسميات لها حقائق، واعتقدوها مسميات شرعية، نقلها الشرع من المسميات اللغوية إلى مسميات شرعية، فيقال -مثلاً-: الإيمان في اللغة التصديق، والإيمان في الشرع قول وعمل واعتقاد، كما يقال: الإسلام في اللغة الإذعان، والإسلام في الشرع الاتباع والعمل.
فالشرع نقل هذه المسميات إلى مسميات شرعية، فأصبحت بذلك ذات معانٍ مقصودة للشارع؛ ولأجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عاماً للأعمال، وعاماً للاعتقادات، وعاماً للأقوال.
وفي الحديث أن شعب الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شعب في نفس الحديث: شعبة قولية، وشعبة اعتقادية، وشعبة عملية.
فالشعبة القولية أن: تقول: لا إله إلا الله.
والشعبة الاعتقادية: الحياء من الإيمان.
والشعبة العملية: إماطة الأذى عن الطريق.
ومعنى ذلك: أن الإيمان يستوعب الأعمال كلها، ويستوعب الأقوال كلها، ويستوعب الاعتقادات كلها، فكلها داخلة في اسم الإيمان.
ولأجل ذلك يتفاوت الناس في الإيمان، فيكون هذا ناقص الإيمان، وهذا متوسط الإيمان، وهذا كامل الإيمان، وهذا قدحت السيئات في إيمانه، وهذا قد استوفى خصال الإيمان وما أشبه ذلك، ونتج من ذلك أن الأعمال الصالحة من مسمى الإيمان، فيقال: الصلاة من الإيمان، والصدقة من الإيمان، والصوم من الإيمان، يعني: أنها أبعاض وأجزاء من هذا الإيمان الذين سمى الله به عباده.
فلا يكون الإنسان كامل الإيمان إلا إذا كمل هذه الشعب، وأتى بها كما ينبغي، سواء كانت أفعالاً أو تروكاً، يعني: أن الأعمال من الإيمان، والتروك من الإيمان، وكيف تكون التروك من الإيمان؟ نقول: لا شك أنها إذا تركت خوفاً من الله تعالى كان الدافع على تركها هو قوة اليقين، ولأجل ذلك يعد تركها من الخصال العظيمة، وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وعد منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) ؛ فما هو العمل الذي عمله حتى استحق أن يكون من أهل الظلال؟ هو أنه ترك الشهوة الجنسية التي في النفس منها دوافع، ومع ذلك لا يخاف محذوراً، فتركه هذا من أعظم الأفعال، يعني: أن هذا الترك مع قوة الدافع أعظم من كثير من الأعمال.
وللعلماء خلاف: أيهما أفضل: ترك المحرمات أو فعل الطاعات؟ فمثلاً: إذا كان هناك إنسان له شهوة قوية تدفعه إلى فعل فاحشة الزنا ونحوه، ولكنه أمسك نفسه، وعصمها، وحفظها، وقادها بزمامها إلى الطاعات، وترك هذا الحرام مع قوة الدوافع إليه، أليس هذا قد جاهد نفسه؟ لا شك أن نفسه تدفعه دفعاً قوياً، ولكنه يقوى على قمعها، ويقوى على ردها، فهو دائماً في جهاد مع نفسه، فهذا يعتبر من أفضل القربات.
كذلك إنسان أمامه المشروبات المحرمة كالخمور والمسكرات وما أشبهها، وهو يعرف أنها لذيذة الطعم، وأن النفس تشتهيها، ولكن عرف أنها محرمة، وأن فيها عقوبة؛ فرد نفسه، واجتهد في قمعها، وأمسك بزمامها، وحمى نفسه عن هذه المحرمات؛ فهو في نفسه مجاهد، مجتهد في قمع هذه الشهوة، تدفعه نفسه ولكنه يردها، ماذا تكون حالته؟ لا شك أنه في جهاد، قد يكون جهاد نفسه وقمعها مساوياً لجهاد الكفار، الذي هو بذل المال وبذل النفس في قتال أعداء الله تعالى.
عندنا فعل يكون عبادة: كقتال الكفار، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة وما أشبه ذلك.
وعندنا ترك يكون عبادة: كترك الشهوات مع الدوافع إليها، فيثاب على ترك الزنا مع وجود الدوافع، وعلى ترك الخمور مع وجود الشهوات، وعلى ترك الأكل الحرام مع تيسره وسهولة تناوله، وعلى ترك المعاملات الربوية، وعلى ترك الغش مع وجود الدوافع له، وعلى ترك الجدال بغير حق، وعلى ترك السباب مع وجود من يسبه، وما أشبه ذلك.
فيثاب الإنسان على التروك كما يثاب على الطاعات والقربات، والكل داخل في مسمى الإيمان.
وبهذا نعرف أن الإيمان يستوعب خصال الطاعة، والخصال الخيرية كلها، ويستوعب ترك المحرمات، وكل ذلك داخل في مسمى الإيمان، فمن استكمله استكمل الإيمان، ومن نقص منه شيئاً نقص حظه من الإيمان.