هذه مسألة يتكلمون عليها في هذا الموضع، وهي مسألة الاستثناء في الإيمان، بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، أنا مسلم إن شاء الله، فمن العلماء من يوجبه، ومنهم من يحرم الاستثناء، ومنهم من يجوزه ولا يوجبه، أو يوجبه في حال دون حال.
سمعنا أن أتباع ابن كرام ومن يقرب من الأشاعرة يوجبون الاستثناء، فيوجبون أن يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله.
ثم تجاوزوا ذلك فصاروا يستثنون في الأشياء الظاهرة، فإذا صلى أحدهم قال: صليت إن شاء الله.
وإذا دخل أو خرج قال: دخلت أو خرجت إن شاء الله.
حتى يقول: هذا ثوب إن شاء الله، هذا قلم أو كتاب إن شاء الله؛ مع أنه لا يشك فيه! هؤلاء لهم مأخذ، يقولون: السبب أنا لا ندري ما الخاتمة وما هي العاقبة، فإن الإنسان إنما يكون مؤمناً إذا مات على الإيمان، ونحن لا ندري، ربما يحصل من أحدنا غير ما كان عليه، فلذلك يستثنون.
يقولون: لأن الله أعلم بالخواتيم، وهو أعلم بما نحن نموت عليه.
صحيح أن الله تعالى أعلم بالخاتمة، وأعلم بالعاقبة، وأعلم بما يموت عليه الإنسان، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الإنسان يكون مكتوباً عند الله من أهل النار، وهو أكثر وقته يعمل بعمل أهل الجنة، في قوله: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، ويعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ، فهو طوال حياته يعمل بأعمال أهل الجنة، ومع أهل الجنة، ثم يرتد في آخر حياته، ويختم له بعمل أهل النار، فيدخل النار.
ومن الحكايات المشهورة التي ذكرها كثير من المؤرخين: أن رجلاً كان مؤذناً من صالحي عباد الله، محافظاً على الصلاة، ومحافظاً على الأذان، ومحافظاً على الأعمال الصالحة، فصعد مرة إلى المئذنة ليؤذن، فلفت نظره ابنة أحد جيران المسجد، وقد أسفرت، فتعلق قلبه بها، فترك الأذان ونزل وطرق باب أهلها وقال: أريدك.
فقالت: لماذا؟ فقال: أتزوجك.
قالت: أنا نصرانية، وأنت مسلم! فعند ذلك قال: سوف أترك ديني وأدخل في دينك، وأتنصر.
فتنصر، ولما تنصر وعقد له عليها مات قبل أن يدخل بها، فختم له بعمل أهل النار!! هذا مثال، والأمثلة كثيرة.
فيقولون: إن العاقبة خفية علينا، فالاستثناء إنما هو بالنظر إلى العاقبة.
وصلى الله عليه وسلم أننا نقول لكم: لا نسألكم عن العاقبة، إنما نسألكم عن الحال الذي أنتم فيه، وما قام الآن بقلوبكم، أما العواقب فأمرها إلى الله تعالى.
فعلى هذا إذا سألك إنسان: ما دينك؟ فلا تقل: ديني الإسلام إن شاء الله؛ إلا على وجه التبرك، بل تجزم وتقول: نعم، أنا مسلم من أهل الإسلام، وفي بلاد الإسلام، وديني الإسلام، وأعتقد ما يعتقده المسلمون، دون أن أستثني ودون أن أتردد ودون أن أتوقف، والعاقبة للمتقين، وأمر الخاتمة إلى الله تعالى.
وصحيح -أيضاً- أن الإنسان إنما يجازى بما مات عليه، فإن كانت حياته حياة كفر، ثم ختم له بالإسلام والإيمان فهو محبوب عند الله، وإن كانت حياته حياة إيمان، ولكن ختم له بكفر، فهو مبغوض عند الله طوال حياته، فإذا علم الله أن هذا الإنسان يموت كافراً فإن الله يبغضه حتى ولو كان يجاهد، ولو كان يصلي، ولو كان يتهجد، ولو كان يقرأ طوال حياته، ولو كانت يتدبر آيات الله، ولو كان يعظ وينصح، فهو مبغوض ممقوت عند الله منذ خلق، وإذا علم الله أن إنساناً يموت على الخير، ويموت على الدين، ويموت على الإسلام، ولكن أكثر حياته يشرك بالله ويكفر به، ويعصي، ويزني، ويرابي، ويقتل المسلمين ويقاتلهم، ويشن عليهم الغارات، ويشجع من يقاتلهم، ويحث على رد الإسلام والرد عليه، ومع ذلك يؤمل أنه يهتدي، والله يعلم أنه يختم له بخاتمة حسنة، يقولون: هو ما زال محبوباً عند الله، وإن كانت أعماله كفرية أو بدعية أو نحو ذلك.
وبكل حال: هذا قول الذين يوجبون الاستثناء.