مما تكلم به العلماء في العقيدة: أسماء الإيمان والدين، فعند أهل السنة والأئمة وجماهير السلف أن الإيمان والدين هو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وأن الأعمال من مسمى الإيمان، هذه عقيدة أهل السنة.
وعند أكثر الحنفية: أنه الاعتقاد بالجنان، والإقرار باللسان، ولم يجعلوا الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا هو الذي ذكره الطحاوي بناءً على أنه معتقد الحنفية.
وذهبت الماتريدية إلى أنه الاعتقاد بالجنان فقط، ولا تدخل فيه الأعمال ولا الأقوال.
وذهبت الكرامية إلى أنه مجرد الإقرار باللسان فقط، وإن لم يكن هناك اعتقاد بالجنان، فعلى قولهم فإن المنافقين مؤمنون؛ لأنهم يقرون باللسان، وهم يقولون: المنافقون مؤمنون، ولكنهم مستحقون للوعيد الذي توعدهم الله به ولو كانوا مؤمنين.
وذهب الجهم بن صفوان وأتباعه إلى أن الإيمان هو مجرد المعرفة، فعندهم - على هذا الاصطلاح- أن إبليس من المؤمنين، وأن فرعون من المؤمنين، وكذلك الكفار الذين عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] ، وكما سمعنا في نظم أبي طالب أنه كان يعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتبعه، فعندهم يكون مؤمناً، وكذلك اليهود يكونون عندهم مؤمنين لقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] .
هذه ملخص الأقوال في مسمى الإيمان، والأصل هو قول أهل السنة، وهو أنه يجمع بين الثلاثة: القلب، واللسان، والأركان.
وهو الذي ذكره البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، يقول: وهو قول وفعل، وهو إنما نص على القول والفعل، وعلى الزيادة والنقصان، ولم يذكر الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد لا خلاف فيه، فلأجل ذلك خصص ووضح أن القول والفعل من الإيمان، ثم أخذ يذكر الأبواب في ذلك، ويقول: باب: الصلاة من الإيمان.
باب: رد السلام من الإيمان.
باب: أداء الخمس من الإيمان.
باب: الصدقة من الإيمان وهكذا.
وقد أقره على ذلك الذين شرحوا صحيحه من أهل السنة، مثل: ابن كثير الذي شرح أول صحيح البخاري وأقره، وكذلك ابن رجب شرح أول صحيح البخاري وأقره، وأتى عليه بالأدلة، وهكذا الذين شرحوه من أهل السنة، أما الذين شرحوه من غيرهم فإنهم قد وقعوا في بعض التأويلات، مثل: صاحب عمدة القاري، وهو العيني، فإنه حنفي؛ لأجل ذلك أخذ يتأول هذه الأبواب، ويحاول أن تكون على مذهب الحنفية، وشارح الطحاوية الذي نقرأ له حنفي -أيضاً-، وهو علي بن أبي العز، ولكنه تتلمذ على ابن كثير، فتأثر به في باب العقيدة، فلأجل ذلك فإنه في باب الأسماء والصفات التزم بمذهب أهل السنة، ولما أتى على هذا الموضع -وكان كلام الطحاوي فيه مخالفاً لمذهب أهل السنة بناء على مذهب الحنفية- لم يستطع أن يجمع بينه وبين قول أهل السنة جمعاً ظاهراً، فحاول أن يجعل الخلاف لفظياً، يعني: أننا إذا جعلنا الإيمان -أصلاً- هو الاعتقاد الجازم، كانت الأعمال من ثمرات هذا الاعتقاد؛ لأن الذي يعمل إنما يحمله على العمل الاعتقاد الجازم، وهذا صحيح؛ إذ إن الإنسان إذا رسخت العقيدة في قلبه انبعثت جوارحه بالأعمال، وأكثر من الصالحات والحسنات والقربات، وإذا ضعفت العقيدة التي في قلبه ضعفت الأعمال عنده، والدوافع التي تدفعه إلى الأعمال الخيرية.
ولكن لابد أن نقول: إن هذه الأعمال التي يعملها تسمى إيماناً، وأن الإيمان يزيد ويقوى، وأن كل واحد من هذه الأعمال يوصف بأنه إيمان، فتوصف الصلاة بأنها إيمان، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] نزلت هذه الآية لما صرفت القبلة إلى الكعبة، فقال بعض الصحابة: فما بال صلاتنا إلى بيت المقدس قبل أن تصرف؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم الأولى قبل التعديل لن تضيع، فسمى الصلاة إيماناً.
وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأعمال كلها من الإيمان في قوله: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة؛ أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، والشعب: هي القطع من الشيء التي إذا تفرقت ضعف، وإذا اجتمعت كمل واستقام، فمعناه: أن هذه الشعب متى اجتمعت في قلب المؤمن وفي عمله أصبح مؤمناً كامل الإيمان، وإذا نقص واحدة نقص إيمانه، وهكذا فإذا ذهبت كلها ذهب الإيمان كله من قلبه.
وفي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد من الإيمان، وهي نطق باللسان، وجعل إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وهي عمل بالأركان، وجعل الحياء من الإيمان، وهو اعتقاد بالجنان، فدخل بذلك كل ما يشبه هذه الأشياء، هذا معتقد أهل السنة.
أما معتقد الحنفية فالإيمان عندهم: هو الاعتقاد والقول، وبعضهم جعل الخلاف بينهم وبين أهل السنة لفظياً، والصحيح أنه معنوي؛ وذلك لأن الإنسان إذا لم يعتقد أن الأعمال من مسمى الإيمان ضعف حرصه على الأعمال، ولم يبالِ بالسيئات؛ لاعتقاده أنها لا تنقص الإيمان، وأن الحسنات لا تجلب الإيمان، وأنها ليست من الإيمان؛ فيضعف بذلك حرصه واجتهاده، فلأجل ذلك اهتم أهل السنة بمن يعتقد هذا الاعتقاد، وقربوهم، وقد ذكر عن البخاري أنه قال: رويت في هذا الكتاب عن مائتين وسبعين عالماً، كلهم يقول: الأعمال من مسمى الإيمان.
يعني: أنه اختار مشايخه الذين روى عنهم في الصحيح -لا في خارج الصحيح- والذين بلغ عددهم إلى مائتين وسبعين أو نحو ذلك، وكانوا كلهم على هذه العقيدة، يعني: لم يروِ في صحيحه عن الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان، مع كثرتهم في زمانه، وهذا دليل على اهتمام السلف بعقيدتهم، وتحريهم في أخذها، ومعرفتهم بمن هو أهل لأن يروى عنه ومن ليس أهلاً لذلك.