قطع الله المعذرة ببينات الرسل، قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] أي: أرسلنا أولئك الرسل لتنقطع الحجة وينقطع العذر، لئلا يقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة:19] ، كما حكى الله ذلك عنهم وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48] فالله سبحانه أرسل الرسل، وجعل معهم بينات ترجح جانبهم، وجعل لهم معجزات يظهر بها صدقهم.
كل نبي فمعجزاته تناسبه وتعجز أهل زمنه، ومنهم من أخبرنا الله بمعجزاته، كما أخبر عن صالح أن من معجزاته تلك الناقة التي قال لهم عنها: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] .
وعن معجزات موسى أنها تسع آيات، منها: اليد، والعصا، وفلق البحر، والطوفان، والقمل، والضفادع، والدم، وما أشبهها من الآيات المعجزة لأهل زمانه.
وعن معجزات عيسى: أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
وعن معجزات داود، منها قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] .
ومعجزات سليمان: في قوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:36-38] .
وكذلك معجزات نبينا ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا القرآن الذي تحدى به فصحاء العرب في زمانه فعجزوا عن معارضته، ومنها ما أجرى الله على يديه من الآيات التي منها إخباره بالأمور المغيبة، ومنها نصره وتأييده على أعدائه، ونحو ذلك من المعجزات.
ولا شك أن هذه المعجزات يراد منها ظهور صدق أولئك الرسل، وذلك أن الله تعالى يحب أن يقطع العذر عن العاصي والمفرط، ويحب العذر إلى العباد، ولذلك ورد في حديث: (لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل) ، وقال في الحكمة من إرسالهم: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6] يعني إعذاراً وإنذارا، فهذا دليل على أنه سبحانه قطع الحجة على الناس بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] .
ومن تأمل آيات الرسل عرف صدقهم، ولكن إنما صد عنهم من أعمى الله بصيرته، ولأجل ذلك عاقب الله من كذبهم بأنواع من العقوبات، فأهلك قوم نوح بالغرق، ثم عاداً وهم قوم هود، فأرسل الله عليهم الريح، وقوم صالح وهم ثمود عاقبهم الله بالصيحة، وأشباه ذلك.