قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الاسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) .
يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً، فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] .
أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.
قال: أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا، صار الطائر في حد الموت.
وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ} [الزمر:9] ، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] ، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه.
وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد.
وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) .
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) ، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه.
وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.
ولقد أحسن محمود الوراق في قوله: لو قد رأيت الصغير مَنْ عمل الخي ـر ثواباً عجبت من كبره أو قد رأيت الحقير من عمل الش ـر جزاءً أشفقت من حذره] .
في هذا الكلام أن المسلم يجمع بين الخوف والرجاء، وأن هذه النصوص تدل على ذلك، فإن قوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] جمع الله فيها بين الخوف والرجاء: يرجون، ويخافون.
وكذلك قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] جمع الله فيها بين الخوف والطمع، والطمع هنا هو الرجاء.
ويظهر ذلك في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] والحذر: هو الخوف، يعني يخاف عذاب الآخرة، ويرجو رحمة ربه ونحو ذلك من الأدلة التي تدل على أن المسلم يجمع بين الخوف والرجاء.
وقد ذكرنا بعض الأسباب التي لأجلها يخاف المسلم، وبعض الأسباب التي لأجلها يرجو.
وقد ذكر الله عز وجل عن عباده هذه الصفات ليرغب فيها، وكثيراً ما يأمر الله عباده بالخوف منه، كقوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51] (فارهبون) يعني: خافوا عذابي.
وتارة يعلق الخوف ببعض مخلوقاته، كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة:24] يعني: خافوا من النار وابتعدوا منها، والنار من الأسباب التي تحمل العبد على الخوف إذا تذكرها.