أهل السنة يأمرون بالجمع بين الخوف والرجاء، أي: أن على الإنسان أن يكون جامعاً بين الخوف والرجاء، فمن العلماء من يقول: عليك أن تسوي بينهما، وقرأت لبعضهم، أنه مثل المحبة والخوف والرجاء بطائرٍ، فقال: المحبة رأس الطائر، والخوف والرجاء جناحاه، فإذا قطع رأسه مات، وإذا قطع أحد جناحيه تحسر، وإذا كمل الجناحان والرأس تم الطيران، فهكذا تكون المحبة حاملة للإنسان على العبادات، الجناح الأول الذي هو الرجاء يحمله على البعد عن اليأس وعن القنوط، ويعلق قلبه برحمة ربه.
والجناح الثاني الذي هو الخوف يحمله على البعد عن الآثام، مبعداً له عن المعاصي وعن الذنوب وعن الإصرار عليها.
فإذا تذكر سعة رحمة الله ومغفرته وفضله وجوده وإحسانه، ومحبته للتائبين من عباده، ومغفرته للذنوب جميعاً برد قلبه، ورجا رحمة ربه.
وإذا قرأ الآيات التي فيها الخوف والعقاب والألم والغضب والنار وشديد البطش ونحو ذلك فزع من المعاصي وابتعد عنها، وتاب وأقلع، وحذر من عقوبتها، فهو دائماً يقرأ هذه وهذه، ولعل هذا هو السبب في أن الله يقرن بين الخوف والرجاء في كثير من الآيات، مثل قول الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49-50] فالآية الأولى فيها الرحمة، حتى لا يغلب على العاصي اليأس، والآية الثانية فيها الخوف؛ حتى لا يغلب على قاسي القلب ونحوه التساهل بالمعاصي ونحوها، فخوفه يحمله على البعد عن السيئات، ورجاؤه يحمله على الإكثار من التوبة رجاء أن تقبل حسناته وأن تغفر سيئاته.
ومثله: قول الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6] قوله: ((لذو مغفرة للناس على ظلمهم)) هذه في الرحمة، فلا تيئس من الرحمة ولا تقنط منها، وقوله: ((لشديد العقاب)) في عدم التساهل بالمعصية؛ فإن الله شديد العقاب.
ومثلها: الآية التي استشهد بها عمر رضي الله عنه لما بلغه أن قدامة بن مظعون قد يئس، وانقطع رجاؤه، وظن أنه ليس له توبة، فكتب إليه الآية التي في أول سورة غافر: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] جمع الله بين الأمرين: المغفرة، والعقاب.
فقال له عمر: (لا أدري أي ذنبيك أعظم: شربك للخمر أولاً، أو يأسك من روح الله) الله تعالى يقول: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] فأنت إذا يئست فقد بلغت هذه الرتبة، فالإنسان بين هاتين المرتبتين: بين اليأس، وبين الأمن، فلا يكون آيساً ولا يكون آمناً، الآمن: هو أن يكثر من الذنوب وكأنه آمن، والله تعالى يقول: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] .
إذاً: المسلم يكون جامعاً بين الأمرين: بين الخوف، بحيث لا يعصي، وبين الأمن بحيث لا ييئس، الأمن الذي لا يوصله إلى التهاون بالمعاصي، يكون آمناً، ولكن ليس أمناً من مكر الله، ولكن آمنا بفضل الله، ويكون راجياً لرحمة الله.
الذين يقعون في كبائر ومعاص من زنا ومن سرقة ومن قتل ومن فواحش، كثير منهم إذا نصحته يقول: أنا قد عملت كذا وكذا، وقد شربت الخمور، وقد تركت الصلوات مدة طويلة، وقد قسا قلبي، وقد فعلت وفعلت أنا لا تقبل توبتي، ولا تعمني الرحمة، أنا مقدم على العذاب، أنا من أهل النار كائن ما كان.
فهذا من الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] هذا هو القنوط، وهو قطع الرجاء، كأنه يقول: ما دمت فعلت الذنوب والكبائر فلا تعمني الرحمة، ولا يصلني العفو، ولا تبلغني رحمة الله، أنا مقدم على النار، أنا آيس من الرحمة ونحو ذلك، يقوله بلسانه والله أعلم بما في قلبه، ولعل السبب: أنه ألف المعاصي، وشب ونشأ عليها، وصعب عليه تركها، فلأجل ذلك اعتذر بهذا العذر الذي هو أفسد من الفعل.
فهؤلاء لا شك أنهم قد وصلوا إلى هذه الرتبة الخطرة، وهي اليأس والقنوط، أو التساهل بالمعاصي، حتى اعتقدوا أنهم مقدمون على النار، جازمون بأنهم من أهل النار.
وهناك طائفة أخرى تجدهم يكثرون من المعاصي، ويكبون عليها، وإذا نصحتهم تعلقوا بالرحمة، وقالوا: رحمة الله واسعة، الله يغفر الذنوب جميعاً، الله وسعت رحمته كل شيء، الله غفور رحيم، ويتعلقون بالرحمة، فهؤلاء آمنون، دخلوا في قول الله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] فتجد أحدهم يترك العبادات، ويقترف المحرمات، ويكثر من السيئات، ولا يهاب الإقدام عليها، ويتعلق بالرحمة، فمثل هذا على طريقة المرجئة، الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، ويقول أحدهم: فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم لا شك أن مثل هذا قد أمن مكر الله، وتهاون بعقوبة الله، ونقول له: لا تأمن أن يأتيك الأجل وأنت على هذا التفريط، وأنت متساهل بحدود الله وبحقوقه، لا تأمن أن هذه المعاصي تطمس قلبك وتقسيه وتحول بينه وبين المعرفة، وتحول بينه وبين التلذذ بالطاعة؛ فتبقى طريداً شريداً والعياذ بالله! إذا أتاك الأجل وأنت على هذه الذنوب مصر عليها فماذا تكون حيلتك؟ هل لك استطاعة في الصبر على النار؟ هل تصبر على عذاب الله ولو لحظة؟ حتى نار الدنيا لو عذبت بها ماذا يكون صبرك في نار الدنيا؟ فكيف بنار الآخرة؟! تذكر أنه قد يعذبك حيث استهنت بحقوقه وبحدوده، وأقدمت على هذه المعاصي، وتهاونت بنظر الله عز وجل، وتهاونت بعقابه، فلا تأمن أن يعاقبك على هذا، ولو كنت موحداً ولو كنت مؤمناً ونحو ذلك، لا تتهاون بحدود الله ولا بعقابه.
وعلى كل حال: فقد ظهر لنا ذم هاتين الطريقتين:- طريقة المرجئة: الذين يبيحون المعاصي ويكثرون منها ويحلونها، ويغلبون جانب الرجاء.
وطريقة الخوارج والمعتزلة: الذين يكفرون بالذنوب، ويحرمون العاصي من المغفرة في الآخرة، ونحو ذلك.
الطريقة الوسط بينهما: هي أن يكون المسلم خائفاً راجياً، كما جمع الله بينهما في هذه الآية التي في سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] (يرجون) (يخافون) فجمعوا بين رجاء الرحمة حتى تبرد قلوبهم عن اليأس، وخوف العذاب حتى لا يأمنوا من مكر الله، حتى يحملهم الرجاء على إحسان الظن بالله، ويحملهم الخوف على الحذر من سخط الله، وعن البعد عن معاصيه من صغائر وكبائر، ويحملهم على الأعمال الصالحة التي تقربهم إلى الله، هذا وجه الجمع بين الخوف والرجاء.