البدع منها ما هو مكفر، ومنها ما لا يصل إلى حد الكفر.
تواتر عن السلف رحمهم الله أنهم كفروا من قال بخلق القرآن، كفروهم من حيث العموم لا من حيث الأفراد، فهم ما يقولون: إن فلان بن فلان كافر؛ لأنه قال بخلق القرآن؛ فإن من أشهرهم خليفة من بني العباس المأمون، وهو أول من فتن الناس ودعاهم إلى القول بخلق القرآن، وفتن العلماء، ومع ذلك لم يكفره الإمام أحمد، بل كان يعذره بأنه متأول، وبأنه لبس عليه أولئك المبتدعة لما قربهم وأدناهم، فدخلت أفكارهم في قلبه، فشبه عليه.
لكن المبتدعة الذين تمكنت هذه البدعة منهم لا نعذرهم، ولكن لا نحكم على فلان بأنه كافر لهذه البدعة، لكن من حيث العموم نقول: القول بخلق القرآن كفر.
كذلك بدعة إنكار الصفات والغلو في إنكارها، وهي طريقة المعتزلة، هذه لا شك أنها كفر؛ وذلك لما فيها من التعطيل، حتى إن بعض العلماء جعلها أكبر من قول المشركين الذين يجعلون العبادة مشتركة بين الخالق والمخلوق، ولكن ما دام أنهم يتسمون بالإسلام فلا نطلق على أعيانهم بالكفر، كأن نقول مثلاً: أبو الهذيل العلاف كافر، أو أبو علي الجبائي كافر، لا، وإن كانا من غلاة المعتزلة، واشتهرا باعتناق هذا المذهب، وكتبا فيه، وأضلا خلقاً كثيراً، لكن نقول: أمرهما إلى الله، ولكن مقالتهما مقالة كفرية؛ لما فيها من مضادة للحق.
كذلك نقول في المذاهب المعاصرة الجديدة: هذه لا شك أنها كفر، يعني من حيث معتقداتهم، فمثلاً: الدروز ليسوا بمسلمين حقاً، ولو ادعوا أنهم يدينون بالشهادتين ظاهراً أو نحو ذلك، لكن في الباطن ليسوا بمسلمين، مع وجودهم وكثرتهم في بعض البلاد؛ ولكن لا نقاتلهم، ولا نكفر أعيانهم حتى نقيم عليهم الحجج، نواجههم مواجهة شخصية، ونبين لهم، لكنهم في الحقيقة يخفون عقائدهم ويخفون مؤلفاتهم التي يعتنقونها.
ويقال كذلك في الطائفة الجديدة الذين يسمون: بعثيين: لا شك أنا إذا بحثنا عن معتقداتهم ومبادئهم نجد أنها مبادئ كفر، وأنهم كافرون، وأن معتقدي هذه العقيدة ليسوا حقيقة بمسلمين؛ لأنهم علمانيون أو اشتراكيون أو ماركسيون أو دنيويون لا همة لهم بالآخرة ولا بمصالح الدين، ولا بالإقبال عليها، ولا بنصر الإسلام ولا غيره، كما يعرف ذلك من مؤلفاتهم، فمذهبهم مذهب كفر.
كذلك يقال أيضاً في مذهب النصيريين والإسماعيليين وغلاة الشيعة الرافضة وأشباههم، من الذين يدعون أنهم من جملة المسلمين، ولكن لهم عقائد ودسائس خفية، لا شك أنها تخالف الإسلام وتخالف عقائد الإسلام، فيقاتلون إذا أقيمت عليهم الحجة، وحصلت معهم مواقف يتبين فيها أنهم عارفون بالحق ومعاندون ومخالفون له، وأبطلت شبهاتهم التي يتمسكون بها، فهذا ونحوه دليل على أنه يوجد هناك مكفرات، ولكن الحكم إنما هو للفعل لا للفاعل.
ولأجل ذلك فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عندما خرج على أهل هذه البلاد، وجد أهلها يشركون بالغلو في الصالحين، ومع ذلك لم يكفرهم مبدئياً، ولكن بين أن فعلهم كفر، ولم يقاتلهم مبدئياً بل شرع في بيان أعمالهم وفي بيان كفرهم، ولما أصروا وعاندوا وجابهوا، وكتبوا رسائل في الرد عليه، وشبهوا على الناس مع اتضاح الحق كالشمس؛ أفتى عند ذلك بجواز قتالهم، وبأنهم -والحال هذه- كفار، حيث إنهم أباحوا عبادة غير الله، وشابهوا المشركين الأولين أو زادوا عليهم، كما بين ذلك في مؤلفاته رحمه الله، فما شرع في القتال إلا بعدما كتب الرسائل والكتب، وأرسلها إلى الطوائف الأخرى يبين لهم ويدعوهم، ويذكر لهم ما يدعوهم إليه، فهدى الله من هدى بواسطته، وأصر بعضهم على عناده، وشرع يلبس على الناس، فلما قامت عليهم الحجة عند ذلك أمر بالقتال.
ولا شك أنهم كانوا يدعون أنهم مسلمون، ويقرءون القرآن، ويأتون بالشهادتين، ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون؛ ولكن يشركون، وذلك بعمارة المشاهد، التي هي القبور، وتسمى الآن في العراق مشاهد، والواحد منهم مشهدي؛ وهم يحجون إلى تلك القبور، وعندهم معابد أعظم من الحرمين كالنجف وكربلاء، فهم يأتون إليها بخشوع وبإقبال ونحو ذلك.
وهنا في نجد كان يوجد قبور كانت منصوبة ومرفوعة ويذبح عندها ويجلس عندها ويتحرى الصلاة عندها، ويطوفون بها، ويدعون أصحابها، ويهتفون بأسمائهم: يا زيد، يا يوسف، يا شمسان، يا فلان! فقال لهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب: أليس هذا هو الدعاء لغير الله؟ أليس الله يقول: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] ؟ فلم يجدوا بداً من أن يقتنعوا بكلامه، ولكن بعضهم فتنوا وزاغوا، وأصروا على شركهم، فحكم بكفرهم بعدما قامت عليهم الحجة، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما قاتل قوماً إلا بعد أن دعاهم، ولما أرسل علياً رضي الله عنه لدعوة اليهود، وهم يهود، ومعلوم عنادهم، قال له: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) فالرسول عليه الصلاة والسلام قصده أن يدخل الناس في الإسلام، ليس قصده أن يقاتل، وليس قصده أن تكون له سيادة ومنصب وملك وسعة تصرف، أو أموال يقتنيها، ما كان هذا قصده، إنما قصده هداية الناس، وإقبالهم على الدين ودخولهم فيه.
وهذا هو الذي يجب علينا بالنسبة إلى كل المبتدعة في زماننا، أن نحرص على دعوتهم، وبيان الحق لهم، وإظهار الأحكام الشرعية، وبيان مطابقتها للحقيقة، فإذا أصروا بعد ذلك وعاندوا فهنالك يقاتلون، إلا إذا كانوا معاهدين أو لهم ذمة، الذميون والمعاهدون والمستأمنون هؤلاء يؤمنون بقدر مدتهم؛ لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4] .
وعلى كل حال هذه مسألة ذات أهمية، وهي: مسألة التكفير والتفسيق ونحوها، وعلينا أن نعرف الفرق بين أن نقول: هذا العمل كفر، وهذا الشخص كافر.