قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله، وهو: أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً، قال الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) .
متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) .
و (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد) وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم بهذا اللفظ.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت) .
ونظائر ذلك كثيرة.
وصلى الله عليه وسلم أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام.
ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين، كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] ، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد: أخوة الدين؛ بلا ريب.
وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] ، إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار) أخرجاه في الصحيحين.
فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه.
وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من ليس له درهم ولا متاع.
فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ، فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته، وهذا مبسوط موضعه] .
الأحاديث التي تقدمت هي التي استدل بها الخوارج على مسألة التكفير بالذنوب، أخذوا بظاهرها، وأهل السنة قد أوردوها وأوردوا ما يبينها.
فمثلاً: الإمام مسلم صاحب الصحيح في أول كتابه كتاب الإيمان سرد أحاديث كثيرة فيها التكفير بالذنوب، ثم سرد أحاديث بعدها فيها الرجاء، وفيها نفع الشفاعة لأهل التوحيد، وأن أهل التوحيد يخرجون من النار ولو عملوا ذنوباً، وأن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنال من لا يشرك بالله شيئاً، وأنهم ولو دخلوا النار بذنوب أذنبوها فإنهم لا يخلدون فيها، فهذا دليل على أن أحاديث الوعيد ليست دالة على الإخراج من الملة.
ثم إن كثيراً من العلماء قالوا في أحاديث الوعيد: إنها تجرى على ظاهرها؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر، مع اعتقادنا أن أهل التوحيد الذين لم يشوبوه بشرك، ولم يبتدعوا بدعاً مكفرة؛ لا يخلدون في النار ولو دخلوها، وعلى هذا فنسكت عن تأويل هذه الأحاديث، أو نحملها على محامل كما ذكر الشارح، ونحرص على الجمع بينها.