قال المصنف رحمه الله: [ومنه: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] .
قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قلتم: هو من ذريته؟ فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: (ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار) ، (يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة) .
فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط؟! ومنه: قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم) .
الحديث، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه، فالشأن في ثبوته في نفسه، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات.
ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة؟ قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان) أخرجه الطبراني، وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم أنه قال: أخبرني الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الملائكة قالوا) ، الحديث، وفيه: (وينامون ويستريحون، فقال الله تعالى: لا، فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا) .
والشأن في ثبوتهما، فإن في سندهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو، وهو من الباطل؟ قالوا: بل الأمر بالعكس، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور، إذ أطمعه في أن يكون ملكاً بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] ، فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة، يشهد لذلك قوله تعالى حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] ،وقال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] .
قال الأولون: إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفس: أن الملائكة خلق جميل عظيم، مقتدر على الأفعال الهائلة، خصوصاً العرب، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33] .
قال الآخرون: قد يذكر العالمون، ولا يقصد به العموم المطلق، بل في كل مكان بحسبه، كما في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70] ، {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] .
{وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]] .
هذه بعض الأدلة التي يفاضلون بها بين الملائكة وبين صالحي البشر، فإن الآية وهي قوله في سورة (ص) مخاطباً لإبليس: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فيها تفضيل آدم، وقد تقدم في أول الكلام أنهم فضلوا آدم حيث إنه سجد له الملائكة، قالوا: والمسجود له أفضل من الساجد، وأجيب بأن السجود امتثال لأمر الله تعالى لا أنه لسجودهم لآدم، وإنما هو تعظيم لله وطواعية له، فإبليس لما امتنع من السجود له اعتبر عاصياً لله ولم يعتبر عاصياً لآدم، ولكنه تكبر حيث قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] أو قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فالله تعالى قال له: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: لآدم الذي خلقت بيدي، وهذا تفضيل لآدم، ولكن ما يلزم أن يكون أفضل من الملائكة، ولو لزم لكان أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، مع الإجماع أن محمداً أفضل البشر وهو خير البرية، وإذا قالوا: إن محمداً من ذرية آدم وإنما شرف بشرف أبيه، ف
صلى الله عليه وسلم أنه قد أخبر أن من ذريته الصالح وغير الصالح، وإذا كان ذلك فلا يلزم في الآية تفضيل.
وقوله تعالى للملائكة في الحديث: (لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت: له كن فكان) فهذا الحديث فيه ضعف، وفيه اعتراض الملائكة على الله تعالى وتمنيهم أن تكون لهم الآخرة ولبني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويتمتعون وينامون وينكحون ويتصرفون، فهم يقولون: ما دام أنك جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، فلا يظن بالملائكة أنهم يتمنون أعمال الدنيا، ولا يظن بهم أنهم يعترضون على الله مع طواعيتهم له، وامتثالهم لأمره، ومع أن الله وصفهم بأنهم لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، وبذلك يعلم بأن هذا لا يليق بمقام الملائكة.
وأما ما استدل به من فضل الملائكة من قصة يوسف في قول النسوة: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] فإنه يفهم منه أن الملك أفضل من البشر، ولكن لا يلزم ذلك، حيث إنه لما رأينه في تلك الحال وهو في غاية الجمال، كان مغروساً في فطرهم أن الملك له هيئة ليست كهيئة البشر.
وكذلك ما حكى الله عن نوح أنه قال: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً} [هود:31] وما أشبه ذلك لا يدل أيضاً على أن الملك أفضل؛ وذلك لأن العرب كانوا يعتقدون أن للملائكة منزلة أرفع من منزلتهم؛ فلذلك كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، يعني: من قربهم منه، ولذلك أنكر الله تعالى عليهم بقوله: {أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:153] ، وبقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ} [الطور:39] وما أشبه ذلك.
وعلى كل حال: هذه الأدلة ونحوها ليست دليلاً واضحاً في تفضيل الملك ولا في تفضيل البشر، والصحيح أن التفاضل بينهم كالتفاضل بين البشر إنما هو بالأعمال والقربات.