قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.
قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو: إما داخل العالم، وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين.
وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً.
فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً؟!] .
هذه مجادلة مع أصحاب البدع بالعقليات، ويستحسن عدم التوسع فيها؛ وذلك لأن التوسع فيها قد يؤدي إلى عدة مفاسد، منها: أولاً: فيه مضيعة للوقت.
ثانياً: فيه إثارة لشبهات لا ينبغي الخوض فيها.
ثالثاً: لا شك أنه يسبب التشويش على الإنسان والتفكر في أشياء لا يحتاج إلى التفكر فيها، وقد ورد في بعض الآثار: (تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق) يعني: انظروا في مخلوقات الله عز وجل فإنكم تأخذون منها عبرة على عظمة خالقها، وأما ذات الخالق وكيفية ذاته وصفاته فاصرفوا عنها الأفكار، واستحضروا بأذهانكم عظمته وكبرياءه، وجلاله وعلوه على خلقه، وتفرده بالملك، وتفرده بالتصرف، واستحقاقه للعبادة على خلقه، فإذا اعتقدتم ذلك كفيتم عن الخوض في الأشياء الباطلة.
ومعلوم أن كلامهم في وصف الله تعالى يفيد أنه ليس له حقيقة ولا وجود إلا في الأذهان، فهم يقسمون الوجود إلى وجودين: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، وهو الذي يمكن للعيان أن يصل إليه، وإذا تأملنا ما يقوله المعتزلة وما يقوله سلفهم -وهم الفلاسفة- من ذلك المحض الذي لا أتجرأ أن آتي به، إذا تأملناه وجدناه يقود إلى النفي المحض، وعدم الاعتراف بخالق مدبر متصرف في الخلق، فيقال لهم: إما أن تعترفوا بوجود رب خارج الأذهان -ليس مجرد وجود في الأذهان- أو لا تعترفوا، فإذا كنتم معترفين لزمكم لزوماً لا محيد لكم عنه أن تعترفوا بأنه ولابد فوق العباد أو تحت أو عن يمين أو عن يسار، وجهة الفوقية أشرف الجهات فاعتمدوها واعتقدوها، ولا يلزم منها محذور، ولا يقال: إنها تدل على حصر أو إنها تدل على تحيز أو على تجسيم، أو على غير ذلك من المحذورات التي يلتزمون بها.
فالواجب أن ندين بذلك، ونترك الخوض فيما يقولونه مما هو في الحقيقة نفي محض، ولا فرق بين ما يقولونه ويعتقدونه وبين العدم المحض، الذي هو حقيقة المعدوم الذي لا مدح له ولا وجود له أصلاً فيمدح.
هذا هو معتقد أهل السنة، وتلك هي أقوال الفلاسفة التي أخذها عنهم المعتزلة.
ومن أقوالهم أن الله إنما يتصف بالسفل لو كان قابلاً للعلو، فإذا لم يكن قابلاً للعلو لم يلزم اتصافه بالسفل، ويقولون: إنه لا يقبل السمع ولا البصر، فلا يوصف بها، فهم يلتزمون نفي صفة السمع والبصر، وإذا قيل لهم: إذا نفيتم عنه السمع والبصر فقد لزمكم أن تشبهوه بفاقد السمع وهو الأصم، وفاقد البصر وهو الأعمى، فيقولون: هذا لو كان قابلاً، أما إذا لم يكن قابلاً فلا، ثم يقولون: الجدار مثلاً لا يقبل الاتصاف بهما، فلا يقال للجدار: حي ولا ميت؛ لأنه لا يقبلهما، ولا يقال للجدار: إنه أصم ولا سميع ولا أعمى ولا بصير؛ لأنه ليس بقابل لواحد منهما، وهذا ليس بصحيح بل هو قابل لهما، فيوصف بأنه جماد، ويوصف بأنه ميت لا حركة فيه، فهو يقبل ذلك، فهم يتمسكون بهذه الشبهة التي تلقوها من الفلاسفة، وهي شبهة باطلة ضالة.