قال الشارح رحمه الله: [وأما قوله: (محيط بكل شيء وفوقه) وفي بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) بغير واو من قوله: (فوقه) ، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء، ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش، وهذا -والله أعلم- إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكاراً لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات، وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: محيط بكل شيء فوق العرش -والحالة هذه- معنى، إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به، فتعين ثبوت الواو.
ويكون المعنى: أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء.
أما كونه محيطاً بكل شيء، فقال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54] ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء:126] ، وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع، والأرضون السبع وما فيهن، وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) ] .
كل هذا يؤخذ منه عظمة الرب سبحانه وتعالى، وأنه محيط بكل شيء، والإحاطة هي العلم بها والاستيلاء عليها والتصرف فيها، فالله قد أحاط علماً بها كما في قوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [النساء:126] بمعنى: أنه أحصاها وعلمها، واستولى عليها، وعلى جميع المخلوقات، فالله محيط بكل شيء، ومن جملة ذلك العباد، فالله محيط بهم، فهو محيط بعلومهم التي يعلمونها، فهو الذي فتحها عليهم، ومحيط بأعمالهم التي يعملونها لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، قال سبحانه: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وكذلك الله محيط بالمخلوقات كلها سواء الجماد منها والمتحرك، والحيوان والنبات وغير ذلك، كله قد أحاط به، واستولى عليه، وتصرف فيه، فهو المستولي على خلقه.
والفائدة من معرفة ذلك التعظيم، فإن العبد إذا تصور أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً عظّمه حق التعظيم، وعبده حق العبادة، وابتعد عما يسخطه، وعما نهى عنه، واستفاد من ذلك تعظيم شرعه والتصديق بخبره، وطلب الثواب الذي رتبه على العبادة، فكل ذلك من فوائد معرفة إحاطته بكل شيء من المخلوقات، وهذه عقيدة المسلمين؛ فلذلك أصبح أهل العقيدة السليمة هم الذين يعظمون حرمات الله وشرائعه، وأما الذين أنكروا علم الله أو أنكروا عظمته أو نحو ذلك فهم الذين وقعوا فيما وقعوا فيه من المخالفات والمعاصي والعقائد المنحرفة.