الكلام يتعلق بمرض القلب وصحته، ومناسبته أن هؤلاء المبتدعة ما أتوا إلا من زيغ القلوب، وما صرفوا عن الحق إلى بسبب مرضها.
ولا شك أن أسباب المرض كثيرة، ومنها تلقي الشبهات، فالله تعالى قد ذكر أن القلوب تمرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] .
فذكر المؤلف أن مرض القلوب نوعان: مرض شهوة ومرض شبهة، وقد ذكر الله مرض الشهوة في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، هذا مرض الشهوة، وهو الذي يميل إلى الفواحش ويطمع في الأجنبية إذا خضعت بالقول، فلذلك قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] ، ينهى نساء النبي عن هذا.
وأما مرض الشبهة فهو أشد، وهو الذي يصد القلب عن الحق، ومتى صد القلب عنه ابتلي بالباطل، وقد ذكر الله للقلوب أنواعاً من الأمراض فمنها الطبع، قال تعالى حكاية عن اليهود: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا} [النساء:155] ، فالطبع عليها معناه: أنه ختم عليها بحيث لا يصل إليها الخير ولا تعرفه ولا تطمئن إليه، وهذا الطبع هو أشد الأمراض.
كذلك مرض ثان وهو الختم، وهو بمعنى الطبع، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] ، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] ، ومعلوم أن الختم هو تغطية الشيء بحيث لا يصل إليه شيء، كما في الظروف المختومة التي لا تصل إليها الأيدي، فالقلب الذي قد ختم عليه لا يصل إليه الخير ولا ينتبه للمواعظ ولا يتذكر، وسبب ذلك هو الشبهات.
وكذلك ذكر الله من أمراض القلوب: الزيغ، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] .
والزيغ معناه: الانحراف والميل، ولا شك أن سببه الشبهات والتشكيكات التي تجعل الحق عنده باطلاً والباطل حقاً، فيميل عن الحق إلى الباطل وذلك هو الزيغ، وقد ذكر الله أيضاً أسبابه: فذكر من أسبابه أنهم زاغوا بأنفسهم فزادهم الله من ذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] .
وذكر أيضاً من أسبابه تتبع المتشابهات، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] إلى قوله عن الراسخين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ، فالزيغ: معناه الانحراف والميل عن الاستقامة، وسببه هذه المعاصي والمخالفات.
وذكر الله أيضاً من أمراض القلوب: القسوة، التي هي قسوة معنوية، بحيث إن القلب لا يصل إليه الخير ولا يلين، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] .
فعابهم بأنهم قست قلوبهم، وأبعد القلوب من الله تعالى القلب القاسي، وهو الذي لا يلين لموعظة ولا يتأثر بتذكير ولا يقبل ذكراً، ولا يتأثر بتخويف، وتأتيه الإرشادات والنصائح وهو يصد عن كل ذلك صدوداً، ولا يزيده ذلك الأمر إلا نفوراً، وما ذاك إلا أنه ممتلئ من الانحراف وممتلئ من الشبهات، ولم يبق فيه محل للمواعظ ولا محل للاعتبار ولا لقبول الحق، فكان بذلك قلباً قاسياً لا يلين، وشبه بحجارة أو أشد من الحجارة.
وقد ذكر الله أيضاً من أمراض القلوب: الران، الذي ذكره بقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، والران أو الرين: هو الغطاء الذي يحجب القلب عن الاعتبار ويحجبه عن التذكر ولا يصل إليه الخير، ولا شك أن سببه كثرة الذنوب؛ فكلما كثرت الذنوب صارت أغلفة على القلب؛ غلافاً فوق غلاف وغطاء فوق غطاء، إلى أن يشق اختراقها وتعسر تنقيتها وإزالتها! وأشد الأمراض كما ذكر بعض العلماء هو: الإقفال الذي ذكره الله بقوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، ولا شك أن القفل هو ما يغلق به الباب ويوصد ولا يمكن فتحه إلا بمفتاحه الذي صنع له، فالقلب إذا كان قد أقفل ولم يكن له ما يفتح به، فإنه يبقى محجوباً ومحجوزاً لا يصل إليه خير.