لا نزال في أحد أركان الإيمان، وهو ركن الإيمان بالقضاء والقدر، وقد توسع فيه صاحب المتن وصاحب الشرح؛ وذلك لأن الخلاف فيه مع طائفتين مشهورتين: طائفة تغلو في الإثبات وطائفة تغلو في النفي، والذين يغلون في النفي طائفتان أيضاً، منهم من ينفي العلم ومنهم من ينفي القدرة، وكل هذه الطوائف مبتدعة ضلال.
وقد هدى الله أهل السنة فتوسطوا في باب القدر بين الجبرية والقدرية، فالجبرية نفوا قدرة العبد وجعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وجعلوه يعاقب على ما لم يفعل ويثاب على ما ليس له فيه اختيار، فجعلوا حركته كحركة الشجر الذي تحركه الرياح.
وأما القدرية فإنهم نفوا قدرة الله عز وجل على أفعال العباد، ووصفوا ربهم تعالى بالعجز عن الهداية وعن التصرف في الخلق كما يريد، فلأجل ذلك كانوا -كما سبق- شبيهين بالمجوس، ووردت فيهم آثار وأحاديث -وإن لم يصح رفعها- تذكر أنهم مجوس هذه الأمة، وأنهم لخصلتهم هذه ينبغي مقاطعتهم، كما في تلك الأحاديث: (إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم) .
فهذا يدل على أن على أهل السنة مقاطعتهم، ومعلوم أن عيادة المريض من حق المسلم على المسلم وكذلك أن يتبع جنازته إذا مات، ولكن قاطع الصحابة وتلامذتهم هؤلاء؛ وذلك لأنهم أتوا بأمر شنيع، وهو تعجيز الله عز وجل واتهامه بعدم القدرة، وتفضيل قدرة العباد على قدرته، ولو كانوا -في زعمهم- يريدون أن ينزهوا ربهم عن الظلم، أي: عن أن يخلق المعصية ثم يعاقب عليها! وقد ذكرنا أن أهل السنة وسط في باب القدر بين الجبرية والقدرية، وذلك لأنهم آمنوا بقدرة الله على كل شيء، ثم مع ذلك اعتقدوا أن العبد له قدرة مغلوبة بقدرة الله، وأن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم، فبتلك القدرة يفعلون الأعمال التي يثاب العبد عليها أو يعاقب ولو كانت مغلوبة بقدرة الله! فيقال: للعبد قدرة وله إرادة، وقدرة الله وإرادته غالبة على قدرة العبد وعلى إرادته، وتلك القدرة هي التي يستحق عليها أن يثاب على الطاعة ويعاقب على المعاصي، ولولا تلك القدرة لبطلت حكمة الله ولبطل شرع الله، وذلك لأن الله تعالى قد شرع الشرائع، وقد أرسل الرسل وأنزل الكتب وضمنها أوامر ونواهي، فلا بد أن يكون هذا الأمر والنهي موجهاً إلى من يستطيع مزاولته، وإذا آمنا بذلك آمنا بأن الله تعالى أقدر العباد على ما هم قادرون عليه وأعطاهم القدرة التي تناسبهم، فبها يثابون وبها يعاقبون.