قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة) ] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم.
قال: ذلك صريح الإيمان!) رواه مسلم، الإشارة بقوله: (ذلك صريح الإيمان) إلى تعاظمهم أن يتكلموا به.
ولـ مسلم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان) ، فهو بمعنى حديث أبي هريرة، فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان.
هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل سودوا القلوب وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ رحمه الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) ، وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب؛ قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم، قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده) ورواه ابن ماجة أيضاً] .
يقول: إن عندنا شيئين: الأمر الأول: ما يجول في النفس وما يحدث من الوساوس والأوهام، ولكن لا يخرجها الإنسان بل يزيلها أو يحرص على إزالتها، فهذه مما يعفى عنه.
والأمر الثاني: ما ابتلي به المتكلمون من إظهار تلك الوساوس والتكلم بها وكتابتها وإشاعتها، وهذا مذموم.
فكان في عهد الصحابة وكذلك في عهد التابعين وتلاميذهم، إذا خطرت في أنفسهم خطرات وشكوك لم يبدوها، بل استمروا على ما هم عليه من العقيدة، وآمنوا بالله وبما جاء عن الله سبحانه وتعالى، فلم تضرهم تلك الوساوس ولا تلك الهواجس ونحوها.
كثيراً ما يحصل على قلب الإنسان وسوسة في أمور من الغيب؛ إما مثلاً في طبقات السماء وطبقات الأرض وكيفية العرش وذات الرب تعالى وصفاته، وكذلك أمور البعث وأمور البرزخ، قد يتوارد على نفسه شيء من التشكيكات في هذه، وكيف تتصور؟ وكيف يتحقق ما ذكر من وصفها في هذه النصوص؟ فإن في ذلك شيئاً من الاستبعاد ومن الاستغراب.
فإذا تواردت هذه الشكوك على هذه النفوس، ولكن أحرقتها النفس المطمئنة ولم تلتفت إليها ولم يتكلم بها الإنسان، فإن ذلك مما يعفى عنه، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم صريح الإيمان، يعني: ما دمتم تقتصرون على هذه الوسوسة دون أن تتكلموا بها فإن ذلك معفو عنه، ثبت بالحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، فحديث النفس معفو عنه، أي عن الخواطر التي تخطر في القلب والتي تكون خواطر ووساوس وأوهاماً وتشكيكات ولكن يغلبها الإنسان بقوة إيمانه، وبما قام عنده من الأدلة الصريحة في صدق الرسل وما جاءوا به من الأمور الغيبية، فلم تؤثر فيه تلك الشكوك والأوهام ونحوها، بل اضمحلت تلك الوساوس ولم تضره.
فعليك أن تؤمن بالحق الذي أنت عليه وتثق به، دون أن تلتفت إلى شيء من تلك الأوهام أو تتمادى معها، هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام.