وتوسط أهل الحق وقالوا: إن الكائنات حاصلة بقدرة الله كلها طاعات ومعاصي، ولكن تنسب إلى العبد من حيث إن الله أعطى العبد قدرة يزاول بها الأعمال ويصح نسبتها إليه؛ ولأجل ذلك يقولون: إن العباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم؛ تنسب أعماله إليه وإن كانت بقضاء الله تعالى وبقدره، وبإرداته الكونية، وبمشيئته التي حصلت بإرادة الله، ولكنها تنسب إلى العبد.
ولو سلبنا العبد هذه القدرة لبطلت الشريعة، وفي بطلان الشريعة بطلان الحكمة من إرسال الرسل ومن إنزال الكتب، ومن الأوامر والنواهي، ومن خلق الثواب والعقاب، والله تعالى منزه عن ذلك.
فلو لم يكن للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم لما أمروا؛ ولأجل ذلك تتوجه إليهم الإرشادات فيقول الله تعالى: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة:105] ، فأخبر بأنهم لهم أعمال، ولو لم يكن لهم قدرة لما أمروا، ولكن الله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم، وقدرتهم مسبوقة بقدرة الله.
أما أدلة الرضا فقد مر بنا الآيات والأحاديث في إثبات أن الله تعالى يرضى ويسخط، وللرضا والسخط أسباب ذكر في هذه الآيات بعضها، فتارة يثبته وتارة ينفيه، يقول الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر، ومعناه أنه يكرهه، وأخبر بأنه يرضى بالشكر {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ، وأضاف هنا الكفر إليهم؛ لأنه الذي صدر بأفعالهم وإن كانت مقدرة، والشكر إليه تشكره، وهكذا الحديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط ثلاثاً) ، فأثبت الرضا وأثبت السخط، وأثبت الكراهية: (وكره لكم ثلاثاً) ، أثبت أن هذه المعاصي يكرهها الله.
ومعلوم أنه نهى العباد، وما نهاهم إلا ولهم قدرة على الانتهاء، وعلى أن ينزجروا ويتركوا الأعمال السيئة التي منها الكفر.
والحاصل: أن من عقيدة أهل السنة إثبات أن الله يرضى ويسخط ويحب ويكره، وأن الأعمال التي يحبها قد أمر بها عباده، وما أمرهم إلا وهم قادرون، وأن الأعمال التي نهى عنها يسخطها ويكرهها، ولا ينهاهم إلا عن شيء يقدرون على فعله، فإن العاجز لا يُنهى عما يعجز عن فعله، فلا يقال مثلاً للإنسان: لا تحي الموتى؛ لأنه عاجز عن إحيائهم فلا ينهى عنه، ولا يقال له: لا تصعد إلى السماء؛ لأنه عاجز عن أن يصل إلى السماء، ولا يقال له مثلا: ً لا تخرق الأرض؛ لأنه عاجز عن أن يخرقها، بخلاف ما إذا قيل له: لا تقتل النفس التي حرم الله، فإنه في إمكانه أن يقتل، وكذلك: لا تزن أو لا تأكل الحرام فلا ينهى إلا عن شيء هو قادر على أن يفعله.
وهكذا أيضاً الأفعال: لا يؤمر بشيء مستحيل، فلا يقال له مثلاً: رد أمس، ولا يقال له: اقلب الحجر ذهباً، فلا يؤمر بشيء لا يستطيعه، بخلاف ما يستطيعه، فيقال له مثلاً: احمل هذا الكرسي أو: انقل هذا المصحف من مكان إلى مكان، أو يقال له: قم واركع ركعتين، لأن هذه في استطاعته، فيؤمر بما يستطيع وينهى عما هو ممكن أن يفعل، ولا يؤمر بالمستحيل أن يفعله ولا ينهى عن الشيء الذي يستحيل فعله.