قال رحمه الله تعالى: [قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! وكيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تُفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: (أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي) ، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غَلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: (فقدَّم وأخَّر وزاد ونقص) ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله.
انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله.
وكان من حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة -على الصحيح- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكباً على البراق صحبةَ جبريل عليه السلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة.
(ثم عُرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففُتِح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم فلقيهما فسلم عليهما، فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، فرد عليه السلام ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم رُفع إلى سدرة المنتهى، ثم رُفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة.
فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئتَ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه -هذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي بعض الطرق- فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضَى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ] : هكذا سرد الشارح مجمل حديث الإسراء والمعراج، وهذا على وجه الاختصار، ومن أراد التوسع فليراجعه في صحيح مسلم (باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي صحيح البخاري في آخره في كتاب التوحيد، وفي كتب أهل السنة.
وقد ذكرنا أن ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء أورد أكثر الروايات وساقها بنصها كما هي، وملخصها ما ذكر من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه الملَك وهو في مكة في بيت أم هانئ، وأتى به إلى المسجد، وفي بعض الروايات أنه غسل قلبه، وملأه حكمةً وإيماناً، غسله من ماء زمزم وملأه، ثم ركب معه على البراق الذي هو دابة الله أعلم بكيفيتها، يضع حافره عند منتهى طرفه، لسرعة سيره، فوصل إلى بيت المقدس في لحظات، ثم صلى بالأنبياء هناك، وبعد ذلك عُرج به إلى السماء.
والعروج لا شك أنه الرُّقِي والصعود، ولا يُعلم كيفية ذلك، ولا شك أنه عُرج بجسده وروحه، إما على نفس الدابة التي هي البراق، وإما أن جبريل حمله فخرق هذا الجو الواسع في لحظات حتى أتى إلى باب السماء الدنيا، فاستفتح الباب فقيل: من هذا؟ قال: جبريل.
قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم.
قيل: مرحباً بك وبمن جاء معك، ففتح له، فوجد في السماوات أولئك الأنبياء في سماء بعد سماء، فوجد آدم في السماء الدنيا، فسلم عليه، وفي بعض الروايات أنه رآه وعنده أسْوِدَة عن يمينه وأسْوِدَة عن يساره، فإذا نظر إلى مَن عن يساره بكى، وإذا نظر إلى من عن يمينه ضحك، فالذي عن يمينه نَسَم أهل الجنة، والذي عن يساره نَسَم أهل النار، أي: أرواح تعرض عليه من أهل الجنة ومن أهل النار، وهي نَسَم بنيه.
فقيل: إن هذا روحه أي: روح آدم تمثلت هناك، وكذلك أرواح الأنبياء الآخرين مُثِّلت هناك، ويمكن أن تكون جُعلت في أجساد تناسبها وتلائمها، والله أعلم بكيفية تلك الأجساد.