قال رحمه الله تعالى: [قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر.
وسيأتي في كلام الشيخ: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده، لا أن المعنى أنه غير متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم، سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش بائن من خلقه.
قيل: بحد؟ قال: بحد.
انتهى.
ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً؛ فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب، ونفي حقيقته.
وأما الحد بمعنى: (العلم والقول) ، وهو أن يحده العباد فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة، قال أبو القاسم القشيري في رسالته: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي: سمعت منصور بن عبد الله: سمعت أبا الحسن العنبري: سمعت سهل بن عبد الله التستري، يقول وقد سئل عن ذات الله فقال: ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
] .
عرفنا أن الأولى ترك الخوض في ذكر الحد، ولكن السلف رحمهم الله قصدوا بالإثبات بيان أن الرب تعالى متميز عن خلقه، فإنه فوق سماواته، وعلى عرشه، وعلي على خلقه، وهذا معنى قولهم: بائن من خلقه.
وقولهم: إنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، يردون بذلك على الحلولية الذين تقدم قولهم بأول الكتاب، فيقصدون بذلك الجواب الواضح بأن الرب سبحانه وتعالى بذاته فوق سماواته على عرشه، وأنه بائن من خلقه، ومعنى قولهم: (بحد) أي: بينه وبين الخلق حد وهو معنى البينونة، ويتوقفون عند هذا.