أما التأويل الذي ذكروه، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، أو لقرينة تؤيد المرجوح وترجحه، فهذا اصطلاح جديد للمتأخرين، لم يكن عند السلف ولا يعرفون هذا، وهو في الحقيقة تحريف وتكلف، وفي الحقيقة إذا جمعنا الأدلة عرفنا أنه يصعب صرفها، سيما وقد اجتمعت الدلالة من كل من مفرداتها.
بعد ذلك قد يقولون: إن ظاهر هذه النصوص يوهم التشبيه، فيوهم أن الله مثل خلقه، وإنا إذا أثبتنا الرؤية أو أثبتنا الكلام أو ما أشبه ذلك أثبتنا أنه مثل الخلق والله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، فيقولون: إن هذه النصوص أو هذه الأدلة يفهم منها التشبيه؛ هكذا قالوا.
ونحن نقول: لا يفهم ذلك، وحاشا وكلا أن تكون صفات الله دالة على شيء باطل، أو تكون نصوص القرآن والحديث دالة على ما هو كفر، بل كلام الله أفصح الكلام، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم أوضح، وهو عليه الصلاة والسلام أنصح الخلق لأمته، وإذا اجتمعت فصاحته ونصحه، والبيان الذي أعطيه، وأضيف إلى ذلك أن كلام الله واضح الدلالة، فلا يجوز أن يقال: إن ظاهره غير مراد، أو: إن ظاهره يقتضي كفراً أو نحو ذلك.
وكثيراً ما يقول المتكلمون: ظاهر النصوص غير مراد.
ونقول: ما مرادكم بظاهرها؟ هل تريدون: أن ظاهرها ما يليق بالمخلوق؟ وأنا إذا قلنا -مثلاً-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فالمعنى أن الله له عينان كعيني المخلوق؟! أو له يدان كأيدي المخلوق؟! فهذا ليس بمراد، ولكن أخطأتم في قولكم: إنه ظاهرها.
ولا يمكن أن يفهم من نصوص الصفات ما هو ضلال، بل معروف أن صفات الله تعالى تليق به، وإذا كنتم تقولون: إن لله ذاتاً لا تشبه غيره فكذلك له صفات لا تشبه غيره، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، يحذو حذوه ومثاله، وإذا كان الكلام واضحاً وفصيحاً فلا عبرة بمن خفي عليه وبمن لم يظهر له، كما قال القائل: عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر يقول هذا الشاعر: أنا عليَّ أن آتي بالكلام الفصيح، وأختار الكلام البليغ، ولكن إذا لم يفهموا فلست بملوم، فيقال: كذلك كلام الله واضح، وإذا لم تفهموا فالنقص في أذهانكم أنتم وليس النقص في كلام الله، فكلام الله سبحانه واضح، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام واضح وفصيح، ولكن ما أتيتم إلا من سوء أفهامكم ومن سوء تفكيركم، وإلا فلو أعطيتم الكلام حقه لقلتم بأنه لا يدل على محذور.
وعلى كل حال معلوم أنهم ما خابوا في ذلك إلا لما ارتسم في أذهانهم وأفكارهم أن صفات الله كصفات المخلوق، وأن النصوص دالة على ما هو تشبيه، فعند ذلك أكثروا من البحث ومن التنقيب حتى وقعوا فيما وقعوا فيه مما هو تحريف.