قال رحمه الله تعالى: [وسبب الضلال: الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة، وإنما سمي هؤلاء أهل الكلام لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما عُلِم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله يُنتفع به في موضع آخر ومع من ينكر الحس، وكل من قال برأيه أو ذوقه أو سياسته مع وجود النص أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قل: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] .
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80] .
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] .
وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً.
قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، مُوَسوِساً تائهاً شاكَّاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً) .
يتذبذب: يضطرب ويتردد، وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟! وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقفٌ في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات و (البخاري) على صدره، وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها رجالٌ فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.
أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] .
وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] .
ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي] .
أورد هذا الكلام ليبين أن هؤلاء نهايتهم الحيرة والتذبذب، وذلك لأنهم ليسوا على عقيدة راسخة، فكلامهم الذي يولدونه سبب الشك؛ لأنه لا يأتي ببرهان، بل بعضه يرد بعضاً، ويكذب بعضه بعضاً، فيأتي أحدهم بمسائل جدلية ويجمعها في مؤلفاته، ثم يأتي آخر أشد جدلاً منه فينقضها واحدة واحدة، فلا يبقى معه شيء، فيقول: كما أنك تولِّد كذا فأنا أولِّد مثله.
وقد تعلمها كثير من العلماء ليردُّوا عليها، ومن جملة من عرفها وأتقنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه درس علومهم وإن لم يصرف فيها وقتاً، ولكن ما أعطيه من الذكاء ومن الفطنة ومن قوة الذاكرة كان سبباً في كونه يفهمها بمجرد ما يقرؤها، فناقش كتبهم ورد عليها رداً متقناً.
وتجد في أول كتابه الرد على الشيعة الرافضة الذي سمي (منهاج السنة) ويكاد يكون ثلثه في مناقشة المتكلمين فيما يتعلق بالصفات وبنفيها ونحو ذلك.
وهكذا كتابه الذي يسمى بالعقل والنقل أو يعرف بـ (درء تعارض العقل والنقل) مطبوع أيضاً في عشر مجلدات، وهو أيضاً مناقشة لهم في تلك الشبهات وبيان ما وقعوا فيه من التناقضات.
وهكذا أيضاً كتابه الذي يسمى بـ (نقض التأسيس) و (التأسيس) كتاب لأحد المتكلمين، وهو للرازي صاحب هذه الأبيات، اسمه (تأسيس التقديس) رد عليه وإن لم يرد عليه كله، أو لم يوجد رده كله كاملاً وطبع الموجود منه، فناقشه كأنه درس كلامهم وتوغل فيه.
وكل ذلك ليعرف المسلمون أنهم لا يثبتون على حالة، بل نهايتهم الحيرة ونهايتهم التذبذب، كما سبق عن أولئك منهم.
فهذا ابن رشد -ويسمى الحفيد - له كتاب في الانتصار للفلاسفة، وذلك لأن الغزالي صنف كتاباً سماه (تهافت الفلاسفة) ولما صنفه رد عليه ابن رشد انتصاراً لهم، وسمى رده (تهافت التهافت) انتصاراً للفلاسفة ورداً على الغزالي.
وقد سبق أن نقل الشارح بعض كلام الغزالي من كتابه إحياء علوم الدين.
فالحاصل: أن الغزالي يبين أنهم ليسوا على عقيدة راسخة، بل إنهم متهافتون مضطربون متذبذبون، ولا عبرة بمن انتصر لهم من أضرابهم؛ فإن ابن رشد فيلسوف.
فالحاصل أن هذا المؤلف لم يكن على عقيدة راسخة، بل ينقل عنهم أنهم متذبذبون، وأنهم مهما وصلوا إليه من المعرفة لا يثبتون أيضاً على طريقة.
وثانيهم أبو الحسن الآمدي صاحب كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) من علماء المتكلمين، ولكن من الذين تكلموا في هذا العلم وتكلموا أيضاً في العلوم الأخرى كأصول الفقه، ومع ذلك فهو قد اعترف أنهم في الحيرة والشك والاضطراب.
وثالثهم الغزالي صاحب الإحياء، يقولون: إن الإحياء من خير كتبه.
وإن كان فيه شيء من البدع، فـ (إحياء علوم الدين) من أحكم كتبه، ولكنه لم يكن من المحدِّثين، فحشد فيه أحاديث موضوعة لا أصل لها، وإن كان جاء فيه بأفكار وبفوائد مهمة، وهو كان في أول أمره مشتغلاً بعلم الكلام ومشتغلاً بالجدل ومشتغلاً بعلم الفكر وما أشبه ذلك، ولأجل ذلك قدم في أول كتابه (المستصفى) مقدمة في المنطق، وفي آخر حياته ندم على أنه أضاع حياته في شيء لا فائدة فيه، فأقبل على الحديث وجعل يقرؤه فوافاه الأجل و (البخاري) على صدره، كأنه يقول: ندمتُ على إعراضي عن كتب الحديث فأنا الآن أشتغل بها في آخر حياتي.
ولعله خُتم له بخاتمة حسنة.
رابعهم: أبو عبد الله الرازي صاحب التفسير الكبير الذي هو أكبر التفاسير الموجودة لهذا العالم الكبير أبي عبد الله، ويسمى (فخر الدين الرازي) ، وصنف كتاباً له وسماه: (أقسام اللذات) وجاء فيه بهذه الأبيات، وكأنه ينتقد أكثر عمله، فحياته ذهبت في شيء لا فائدة فيه من علم الجدل.
رُوي أنه مرةً كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له أكثر من مائة أو مائتين، فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى.
قالت العجوز: أفي الله شك.
عجوز على فطرتها تقول: هذا الذي حرص على جمع هذه الأدلة في قلبه شك، وفي قلبه توقف، فلا يحرص على تتبعها إلا من هو في حيرة أو في شك، فهو يقول في الأبيات التي سبق ذكرها: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال فـ (إقدامهم) : تقدمهم.
يعني: نهايته هذا الأمر.
وسعيهم يعني: عملهم، أكثره ضلال.
ثم يقول في أثنائها: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا أي: ما استفدنا من جمعنا ومن تأليفاتنا إلا قال فلان، وقيل كذا، وقالوا كذا، فهذه فائدتنا.
ثم يقول بعد هذه الأبيات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية.
يعني: طرق أهل الكلام ومناهج الفلاسفة.
يقول عنها: فما تروي غليلاً -الغليل: الظمآن- ولا تشفي عليلاً يعني: مريضاً.
ثم يقول: ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] .
وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فهذا كلامه في هذا الكتاب (أقسام اللذات) ، أليس ذلك دليلاً على أنه اعترف على نفسه وعلى بني جنسه أن سعيهم ضلال وأنهم في حيرة وأن عملهم تافه؟! إذاً نقول: هذه نهايتهم، أما أهل العقيدة الراسخة التي هي معرفة الله بصفاته وتفويض كيفيتها فهؤلاء -والحمد لله- لم يقعوا في شيء من هذا التزلزل.