قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلَّا فهل تعقل رؤيةٌ بلا مقابلة؟! ومن قال: يُرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء، وإلَّا فإذا قال: يُرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.
ولهذا ألزم المعتزلة مَن نفى العلو بالذات بنفي الرؤية وقالوا: كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة، وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدَّق الرائي البصر في شعاعها ضعُف عن رؤيتها، لا لامتناعٍ في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقاً، فلما أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين، بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملَك في صورته إلا من أيده الله، كما أيد نبينا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملَك في صورته، فلو أنزلنا عليهم ملكاً لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ يشتبه عليهم هل هو بشر أو ملَك، ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا.
وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لَمَّا وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يُرى لا في جهة أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يُرى ولا في جهة] .
لا شك أن أقوال أولئك المعتزلة وكذلك غيرهم ممن نفى الرؤية أو أثبت رؤيةً غير حقيقية أنها أقوال مضطربة يردها كل عاقل.
وقد عرفنا أن المعتزلة ينكرون الرؤية، وهم لا يزالون موجودين، ينكرون الرؤية أصلاً، وأن طائفة الأشاعرة يثبتون الرؤية، ولكن لا يثبتون العلو ولا يثبوت الجهة، وينفون أن يكون الله تعالى فوق العالم، وينفون أن يكون الله فوق عرشه وفوق سماواته بائناً من خلقه، فيقولون: إنه يُرى لا في جهة، هذا قول الأشعرية، وحقيقة قولهم أن الرؤية مكاشفات قلبية ليست بصرية، فالرؤية عندهم مكاشفات قلبية وأنوار تسطع للقلب، لا أنهم ينظرون بأعينهم وبأبصارهم إلى ربهم، ويقولون: إن هذا يستلزم الرؤية التي هي المقابلة.
فرد عليهم الشارح ومن قبله بأن هذا قول باطل، وأن من قال: إن الله يُرى لا في جهة فليراجع عقله؛ لأن المرئي لا بد أن يكون في جهة، وإن لم تكن تلك الجهة تحصره فالله تعالى يتجلى لعباده من فوقهم، فينظرون إليه، ولكن لا يدل على أنه محصور في جانب أو في جهة أو في حيز -تعالى الله-، بل يرونه كما يشاء.
هذا هو القول الصحيح.
فقول هؤلاء المعتزلة ومثلهم الأشعرية الذين قالوا بهذه المقالة لا شك أن قولهم يستعبده العقل، وأنه قول على الله تعالى بلا علم.
والواجب أن المسلم إذا جاءته الأدلة يقبلها ويتقبلها، ويعرف أحقيتها وصحتها، ويؤمن بأنها كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله أخبر بنفسه، وأن رسله أعلم بما يجوز على ربهم، وقد أخبروا بذلك، فليس لأحد أن يرد بعض خبرهم ويقبل بعضه، فيكون من الذين قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] ، بل إذا قبل ما يتعلق بالأعمال يقبل ما يتعلق بالعقائد من الأمور الأخروية والأمور الغيبية؛ حتى يكون بذلك سليم الفطرة وصحيح المعتقد مؤمناً بما جاء عن الله على مراد الله، كما نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: آمنتُ بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.