والمعتزلة الذين أنكروا الصفات تأولوها تأويلات بعيدة، فبعضهم يقول: إن الـ (إلى) هي النعمة يعني: آلاء ربها أو نعم ربها ناظرة.
و (إلى) معروف أنه حرف جر، ولكن جعلوه اسماً مضافاً فقالوا: إلى ربها.
أي: نعمة ربها، أو واهب الآلاء.
ولا شك أن هذا تكلف بعيد.
وهكذا قال بعضهم: (إلى ربها ناظرة) أي: إلى ثواب ربها.
أو: إلى نعمة ربها.
أو: إلى جزاء ربها.
فجعلوا في الكلام مضمراً، وما الذي دلكم على أن في الكلام مضمراً أو كلاماً محذوفاً؟!
وصلى الله عليه وسلم لا دلالة عليه.
فلماذا تتركون الظاهر وتأتون بمضمر من قبل أنفسكم؟! وبعضهم قال: (ناظرة) أي: منتظرة.
إلى ربها.
أي: منتظرة ما يعطيها أو ما يهبها، مع أن هناك فرقاً بين (ناظرة) و (منتظرة) ! ومن أمثال هذه التأويلات تكلف يسمونه تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف وتغيير وتصحيف لكلام الله وصرف له عن ظاهره.
نقول: إذا تكلفتم هذا النص بالتأويل أمكن غيركم وأمكنكم أن تتأولوا آيات المعاد، فأنتم الآن -يا معتزلة- تكلفتم في التأول في آيات الصفات وحرفتم ما وصلكم، ففتحتم الباب لغيركم، فالفلاسفة أنكروا المعاد الحقيقي الجسماني، وقالوا: ليس هناك رد للأرواح في الأجساد، وليس هناك إحياء للأموات.
فقيل لهم: كيف تردون على هذه النصوص؟ فقالوا: نتأولها، وليس تأويلكم لآيات الصفات أصعب من تأويلنا لآيات المعاد! ثم جاءت فرقة أخرى من غلاة الفلاسفة وغلاة الصوفية فتأولوا نصوص الأحكام -الحلال والحرام والأوامر والنواهي- وصرفوها أيضاً عن ظاهرها وأبطلوها كل الإبطال، حتى قال بعضهم: المراد بالحج حج القلوب إلى علام الغيوب، أو قالوا مثلاً: الصلاة المراد بها اتصال القلب بالرب، واتصال القلب بالرب ليس معناه أن تجتمعوا في المساجد وتركعوا وتسجدوا، هذا ليس هو المراد منكم، فإذا صغت قلوبكم واتصلت بالملأ الأعلى فهذه هي الصلاة التي أمرتم بها.
هكذا يقول الصوفية ونحوهم.
نقول: إذاً بطَلَت بهذا التأويلِ الأحكامُ التي نُقلت بالفعل وبالقول الصريح بسببكم يا أشعرية ويا معتزلة لما تأولتم وفتحتم باب التأويل لآيات الصفات، فدخل من هذا الباب الفلاسفة والصوفية وأهل الوحدة وصاروا يتأولون.
بل حصل بالتأويل أعظم الفتن؛ فإن الفتن التي وقعت في عهد الصحابة إنما هي بسبب التأويلات الباطلة، فقتل عثمان، وكذلك قتل الحسين، وكذلك الفتن التي حصلت ووقعت في صفِّين ووقعت في الجمل ووقعت في الحَرَّة بسبب التأويلات البعيدة عن الصواب.
فلا تتأولوا النصوص، بل أجروها على ما يُفهم منها وفوضوا الكيفية، فإذا قصرت أنظاركم ومعرفتكم عن شيء فلتتوقف عن الكيفية، كيفية تلك الرؤية أو كيفية الصفة التي هي صفة ذات، وقولوا: الله أعلم بها، كما يقول مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
فهكذا نقول: الكلام معلوم والكيف مجهول، الرؤية معلومة وكيفيتها مجهولة لنا، والله أعلم بكيفيتها.
وإذا كان كذلك سلِمنا من أن نقع في هذا التحريف الذي سماه أهله تأويلاً، ترويجاً له حتى يُقبل عند السُّذَّج وقِصار الأفهام.