قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ومن سمعه وقال: إنه كلام البشر فقد كفر) ، لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله، بل قال: إنه كلام محمد أو غيره من الخلق، ملكاً كان أو بشراً.
وأما إذا أقر أنه كلام الله ثم أوَّل وحَرَّف فقد وافق قول من قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان، وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله إن شاء الله تعالى] .
صاحب المتن -وهو الطحاوي - عبارته هنا تقتضي تكفير من يقول إن هذا القرآن قول البشر.
وما ذاك إلا أن الله كفر من قال ذلك، فقد حكى الله عن بعض المشركين قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18-25] ، فالشاهد قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، فجعله أولاً سحراً يؤثر، ثم صرح بأنه قول البشر.
فهؤلاء الذين يقولون: إنه إنشاء محمد قد أشبهوا هذا الكافر الذي قال: إنه سحر يؤثر، إنه قول البشر، وتوعده الله فقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وهذا وعيد شديد، وهو عام لكل من زعم أن هذا القرآن قول البشر لا أنه قول رب البشر، والذين يعتقدون أنه كلام الله يعرفون أن الله تعالى هو الذي تكلم بما شاء، وأنزله وحياً على نبيه، وأمر نبيه أن يبلغه إلى أمته باللفظ والمعنى، فعلى هذا يكون البشر جميعاً كلهم يقرءونه على أنه كلام الله، لا على أنه كلام لأحدهم.
فالحاصل أن من ادعى أنه ليس هو عين كلام الله، وأن كلام الله هو المعاني دون الألفاظ ودون الحروف، فقد أبطل هذه النصوص وادعى أن كلام الله إنما هو المعنى.
وهذه الطائفة هي طائفة الأشاعرة، وهم من أكثر الطوائف انتشاراً في القرون الوسطى؛ إما لأنهم تمكنوا وكثروا وصار الخلفاء يقربونهم، فصاروا يؤلفون وينصرون بذلك معتقدهم، واشتهر هذا القول وكثرت الكتابة فيه، وتستر الذين يقولون بقول الحق؛ لكونهم قلة وأذلاء فاستخفوا، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بما يعتقدونه طوال أكثر القرون؛ في القرن الرابع والخامس والسادس وأغلب السابع، وفي آخر القرن الثامن ظهر من يقول بالحق ويصدع به، فقيض الله للأمة من انتصر انتصاراً شديداً لقول الحق، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن قرأ عليه، ومن انتفع به من تلاميذه وأهل زمانه إلى أن وصل الأمر إلى مؤلف هذا الشرح.
فهؤلاء الذين في هذه القرون الكثيرة وكذلك من بعدهم لا شك أنهم ذوو منزلة، فلأجل ذلك توقف العلماء في الحكم عليهم، قالوا: هل نحكم على هؤلاء كلهم أنهم كفار؛ حيث إنهم يقولون: إن كلام الله هو المعنى، وليس كلام الله هو الحروف، ويقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه.
ففي زعمهم أن الكلام إنما يخطر ممن تقوم به الحوادث كما يدعون ذلك، فعند ذلك توقفوا وقالوا: نعذرهم باجتهادهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى ولا نكفرهم، ولكن من قامت عليه الحجة وانقطع عذره، ومات مصراً على ذلك، نتبرأ منه وأمره إلى الله تعالى، ولا نصرح بكفره.