قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معاً.
وهذا قول السلف.
الثاني: اسم اللفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه.
وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم.
الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه.
وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.
الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى.
وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية.
ولهم قول يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف كلام الله فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه.
وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فاستدلال فاسد، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد.
ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به، فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل وليس هو في ديوانه؟! وقيل: إنما قال: (إن البيان لفي الفؤاد) وهذا أقرب إلى الصحة.
وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام، وزعموا أن عيسى عليه الصلاة السلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت، أي: شيء من الإله بشيء من الناس، أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟ وأيضاً فمعناه غير صحيح؛ إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير إليه إشارة] .
ذكر الشارح أن الفرق لها في مسمى الكلام عدة تعريفات: فمنهم من يقول: إن الكلام اسم للفظ وللمعنى جميعاً، اللفظ الذي هو الحروف، والمعنى الذي اشتملت عليه تلك الحروف وتلك الكلمات.
والنحويون عندهم تعريف الكلام يقولون: إنه ما أفاد وصيغ بالألفاظ العربية وتركب من كلمتين فأكثر، فأما إذا كان من كلمة واحدة فلا يسمى كلاماً، وهكذا إذا لم يفد فلا يسمى كلاماً، وهكذا إذا كان مركباً ولكن ليس بالألفاظ العربية فلا يسمى كلاماً.
وهناك من يقول: إن الكلام هو الحروف والكلمات التي ينطق بها، وأما المعاني التي اشتمل عليها فلا تدخل في مسمى الكلام.
وهذا قول المعتزلة.
وهناك قول ثالث بعكسه، وهو أن الكلام هو المعنى، وأما الحروف فإنما هي دالة عليه.
وهناك قول رابع أنه مشترك بينهما.
وعلى كل حال فهذه الأقوال كلها خطأ إلا القول الأول، وهو أن الكلام اسم للفظ وللمعنى جميعاً، لا يسمى كلاماً إلا إذا كان له معنى مفيد، وكان بالحروف التي يسمعها المتكلم، ولو كان الكلام مصوغاً بغير العربية سميناه كلاماً بلغة أهله، فهناك الأعاجم لهم عدة لغات، ونسمي لغاتهم كلاماً، فنقول: تكلم بلغته، ولا نفهم كلامه، ونقول له: فسر لنا كلامك، فنسميه كلاماً إذا فسره بلغة نفهمها.
فعلى هذا يكون الكلام العربي اسماً لموصوف بالحروف وبالكلمات التي استعملتها العرب إذا كانت ذات معان مفهومة عند الذين وضعوا اللغة وعند الذين تكلموا عليها.
فإذاً: القرآن كلمات وحروف، وجمل وآيات وسور، وكل جملة لها معنى مستقل، وقد تكون الآية فيها عدة جمل، كآية الكرسي، فقد اشتملت على عشر جمل: الجملة الأولى: قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة:255] فيها إثبات الإلهية.
الجملة الثانية: قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] مشتملة على اسمين من أسماء الله مؤكدين لوصفه.
الجملة الثالثة: قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] نفي لهذين النقصين، والسنة النعاس، والنوم معروف إلى آخر ما في الآية.
ففيها عشر جمل كل جملة ذات معنى، فتسمى الجملة كلاماً، فيقال: هذه الجملة من كلام الله، ويقال كذلك في بقية القرآن: إنه مشتمل على كلمات وجمل ذات معانٍ، كل جملة دالة على معنى يفهمه من تعلمه وعرفه، ويترجم إلى لغة أخرى لمن لا يفهمه، وهذا القول هو الصحيح؛ فالكلام اسم للفظ والمعنى، وكلام الله اسم للحروف والكلمات مع المعاني التي دلت عليها تلك الكلمات.