قال المؤلف رحمه الله: [فإن قيل: فقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] وهذا يدل على أن الرسول أحدثه، إما جبرائيل أو محمد صلى الله عليه وسلم! قيل: ِذكْرُ الرسول معرَّف أنه مبلِّغ عن مرسله؛ لأنه لم يقل إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأ من جهة نفسه، وأيضاً: فالرسول في إحدى الآيتين جبرائيل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ؛ إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر، وأيضاً فقوله: {رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107] دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله، وأيضاً فإن الله قد كفَّر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، فمن جعله قول محمد بمعنى أنه أنشأه فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً لا من قاله مبلغاً، ومن سمع قائلاً يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قال هذا شعر امرئ القيس، ومن سمعه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قال هذا كلام الرسول، وإن سمعه يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2-5] قال: هذا كلام الله إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال: لا أدري مِن كلام مَن هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذَّبه، ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له: هذا كلام مَن؟ أهذا كلامك أو كلام غيرك؟] .
يقول: قد يعترض معترض بهذه الآية التي في سورة الحاقة وفي سورة التكوير، وهي قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:40-42] وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] ، فالرسول هاهنا هو جبريل الذي بلغه عن الله، فمعنى قوله: (قول رسول) تبليغ رسول.
ونأخذ من كلمة (رسول) أنه لم ينشئه، وأنه لم يقله من نفسه، وإنما بلغه حيث إنه مرسل.
فالرسول هو الذي يحمل رسالة من غيره، فكل من حمل كلاماً أو حمل كتاباً فإنه يسمى رسولاً، تقول: أرسلت غلامي بكذا وكذا، أو: يأتيكم رسولي.
أي: منتدبي.
وأرسلت ابني إلى فلان.
فالرسول بمعنى الذي يحمل رسالة، فهذا القرآن قول رسول، أي: قول جاء به رسول أرسل به، وذلك الرسول الذي ذكر في هذه الآيات هو جبريل عليه السلام، يبين ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193-194] فهكذا قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] ، فوصف بأنه أمين في الموضعين، فيؤخذ من ذلك أنه مأمون على ما أرسل به، لا يدخل فيه زيادة ولا أي نوع من التغيير، بل يبلغه كما هو دون أي تحريف أو تغيير.
إذاً لا متعلق في هذه الآية، بل الآية واضحة بأنه بلغه عمن أرسله، والذي أرسله به هو الله تعالى.
ثم يقول: الكلام إنما يضاف إلى من قاله لا إلى من بلغه، فهو كلام الله، والرسول الذي بلغه سواءٌ أكان جبريل أم محمداً إنما منه التبليغ، وقد ذكر الله ذلك في عدة آيات، كقوله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] ، وقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} [الأحزاب:39] ، فالتبليغ معناه إيصال ما بعث به إلى المرسل إليهم كما هو دون نقص أو تغيير.
فإذاًَ هو بلغه، ونشهد بأنه بلغ ما أرسل به إلى هذه الأمة، وأن الأمة قد حفظته.
ثم يقول: الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من بلغه.
فنحن نقولك: كلام الله وتبليغ جبريل.
أي: نزل به جبريل، وقرأه وعلمه للأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فهو كلام الله ولا يضاف إلى من بلغه، ويستدل على ذلك بأن الكلام يضاف إلى من ابتدعه بقولنا إذا سمعنا من ينشد: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل هذا بيت في أول قصيدة من المعلقات، وهو لـ امرئ القيس.
فإذا سمعناه نقول: هذا كلام امرئ القيس، ولا نقول: هذا كلامك أيها المتكلم.
وإذا سمعناك تقول -مثلاً-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) هل نقول: هذا كلامك أيها المتكلم؟ نقول: هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام.
ونعرف أنه أول من قال هذا، وإذا سمعنا من يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] ونحن نعرف أنه كلام الله قلنا: هذا كلام الله، ليس كلامك أيها المتكلم الذي أسمعتنا، إنما أنت مبلغ.
فإذاً هو كلام الله وتبليغ رسل الله.