وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال: أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معانٍ، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه.
وهذا قول المعتزلة.
وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كـ الأشعري وغيره.
ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.
وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا قول الكرامية وغيرهم.
وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية.
وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي رحمه الله.
وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات.
وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه.
وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.
وقول الشيخ رحمه الله: (إن القرآن كلام الله) ، (إنّ) بكسر الهمزة عطف على قوله: (إنّ الله واحد لا شريك له) ، ثم قال: (وإن محمداً عبده المصطفى) ، وكسر همزة (إنّ) في هذه المواضع الثلاثة؛ لأنه معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: (نقول في توحيد الله) ] .
الكلام هنا على القرآن، وسبب ذلك أن مسألة القرآن من أقدم المسائل التي أنكرتها المبتدعة، أنكرت المبتدعة صفة الكلام، وكان أول من اشتهر بإنكار أن الله يتكلم هو الجعد شيخ الجهم، وقد قتله خالد القسري في يوم العيد، وجعله كالأضحية حيث قال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.
فأنكر الجعد وكذا تلميذه الجهم أن يكون الله متكلماً، وأن يكون القرآن كلام الله، وادعى أن الكلام لا يحصل إلا من المخلوقين، وأن الكلام يحتاج إلى لهوات وإلى نفس وإلى شفتين وأسنان ولثة ونحو ذلك، فادعى أن هذا لا يتصور إلا من المخلوق، وأن الخالق لا يمكن أن يتكلم.
فلما أنكر أن الله تعالى متكلم جيء بالقرآن، وقيل: هذا القرآن ماذا تقول فيه؟ أليس هو كلام الله كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، وكما سماه قولاً في قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ، وكما ينسب القول إليه بقوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] ، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} [آل عمران:55] وغير ذلك من النصوص التي فيها إثبات أن الله قال، وأنه يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأن الله كلم موسى تكليماً، وأن هذا القرآن كلام الله في قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وأن كلمات الله قديمة النوع حادثة الآحاد، وأنها لا نهاية لها، كما في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] وكما في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] .
وغير ذلك من النصوص الكثيرة! فلما جيء بهذه النصوص تحير ماذا يقول، فلم يجد بداً من أن يقول: إن القرآن مخلوق خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات، يعني: كما خلق الإنسان، وكما خلق الأجرام، وكما خلق الكواكب، وكما خلق الحيوانات والنباتات، وأنكر أن يكون كلام الله تعالى، وسيأتي مناقشة قوله وذكر ما استدل به، وبيان ضعف تلك الأدلة.
ولما تكلم الجعد ثم الجهم ثم تلميذ لهما أيضاً اسمه (بشر المريسي) ، ثم غيرهم من المبتدعة كانوا في أول الأمر ضعفاء مقهورين لا يلتفت إلى قولهم، ولا أحد ينخدع بهم، ولكن حدث في خلافة المأمون أنه قرب بعضهم، وأنه لما قرب بعضهم زينوا له مذهبهم، وبينوا له أنهم أولى بالصواب، وأن القرآن مخلوق، ودعوه إلى أن يمتحن الناس بذلك، فأطاعهم ووافقهم الخليفة المأمون، وحصلت بذلك فتن عظيمة وامتحن فيها أئمة الإسلام، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو الذي صمد أمام الفتنة وصبر وأوذي في ذات الله، ومات المأمون قبل أن يؤتى بالإمام أحمد، وتولى بعده أخوه المعتصم، وهو الذي تولى ضرب الإمام أحمد، فأمر بضربه بين يديه، وأطال حبسه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي المعتصم، وتولى بعده ابنه الواثق فخفت الفتنة في زمنه، ولكن لم يزل على عقيدة أبويه فيما يظهر، ثم بعده تولى ولد الواثق ويقال له: (المتوكل) ، وهو الذي نصر السنة، وقرب أهلها، وأبعد المبتدعة.