وفي هذا أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن والإنس، ورسالته إلى الجن واضحة من الأدلة، وقد ثبت في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن وقرأ عليهم سورة الرحمن، فكان كل ما مر بهذه الآية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: لا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد.
هكذا ورد في الحديث.
وكذلك ثبت في حديث ابن مسعود أنه أخبر بأنه صلى الله عليه وسلم ذهب ليلة إلى الجن، وسمع ابن مسعود كلامه معهم، وذكر أنهم سألوه طعاماً وسألوه علفاً لدوابهم، فقال لهم: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، وكل بعرة علف لدوابكم) ، ونهى عن الاستنجاء بهما، وروي أن الجن استمعوا إليه لما جاء من الطائف، فعجبوا من سماع ما أنزل إليه، ونزلت فيهم الآيات التي في آخر الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] ، ونزلت فيهم أول سورة الجن التي أنزلت باسمهم.
ولا شك أن كل ذلك دال على أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم، والأنبياء الذين كانوا قبله كانوا يبعثون إليهم، وإنما في الجن نذر كما في الآية التي في الأحقاف، وهي قوله: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ، فليس في الجن رسل، وإنما فيهم نذر يأخذون العلم ويأخذون الرسالة عن الرسل من الإنس فينبئون قومهم، وقد ذكر في سورة الجن أن فيهم أخياراً وأشراراً في قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] ، وفي قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:14-15] ، فهذا دليل على أنه فيهم شقياً وسعيداً، ومقرباً وبعيداً، وأن فيهم مؤمناً وغير مؤمن.
ولا شك أن الرسالة التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحكام تناسبهم، والله أعلم بما يناسبهم في صيامهم وصلاتهم، وغير ذلك من أحكامهم، وهكذا تناكحهم وغير ذلك، فلهم أحكام تخصهم، وهي واضحة فيما بينهم.