وأما القصة الأخيرة فهي مع ملك الروم وهو هرقل، والروم في الشام، وموطنهم في ذلك الوقت دمشق الشام، وكانوا يدينون بالنصرانية، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوه إلى الإسلام، ويقول فيه: (أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) ، وكتب إليه آية من سورة آل عمران، هي قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] .
فلما جاءه هذا الكتاب أرسل من يبحث عن أحد يعرف هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي حتى يسأل عن أخلاقه وعن صفاته، فدل على أبي سفيان، وكان أبو سفيان قريباً للنبي صلى الله عليه وسلم في نسبه؛ لأنه من بني عبد مناف، وهو الجد الثالث من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فكلاهما يجتمع في عبد مناف، وهو أعرف به، وإن كان صده عن الدخول في أول الإسلام أول مرة الرئاسة والمنصب.
سأله هرقل عن هذه الأسئلة، واستدل بجوابها على صحة ما جاء به.
فالسؤال الأول عن نسبه، فأخبره أبو سفيان أنه ذو نسب، يعني أنه من أشرف الناس وليس من أطرافهم، ولا من أراذلهم.
فالأنبياء يبعثون في وسط القبائل وفي أشرفها، لا يبعثون من أطراف القبائل وأراذلها، فاعترف بأنه ذو نسب، يعني: أن آباءه وأجداده لهم شرف ولهم منصب.
السؤال الثاني: هل ملك أحد من آبائه؟ فلما أخبره بأنه لم يملك استدل على أنه لو كان أحد من آبائه قد ملك لكان طالباً ملك أبيه، فلما لم يكن كذلك عرف أنه ليس له غرض في ذلك.
والسؤال الثالث: هل كان كذاباً قبل أن يقول ما قال؟ فلما أخبره بأنه لم يجربوا عليه كذباً، قال: كيف يدع الكذب على الناس ويكذب على الله؟! هذا مستحيل، إذاً ليس هو كذاباً.
والسؤال الرابع: هل سبقه أحد إلى هذه المقالة؟ فلما أخبر بأنه ما سبق استدل بذلك على أنه صادق؛ لأنه لو قالها أحد قبله لكان مقتدياً به.
وسأله عن أتباعه فأخبر بأنهم ضعفاء الناس؛ وذلك لأن الضعفاء هم أرق قلوباً، وهم عادة الذين يتقبلون الحق، وهم أتباع الرسل، كما أخبر الله عن نوح في قوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: أراذل الناس، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:27] ، ولكن في العاقبة وفي النهاية أسلم أشراف الناس واتبعوه.
وسأله: هل يزيدون أم ينقصون؟ ولما أخبره أنهم يزيدون عرف أن زيادتهم دليل على صدق ما هم عليه، وأنهم يتبعونه لاقتناعهم بأن ما جاء به حق، فكل من تبين له الحق اتبعه.
وسأله: هل يرتد أحد منهم؟ فلما أخبره بأنهم لا يرتدون، بل من دخل في الإسلام تمسك به ولم يرجع عنه أبداً، قال: هكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، فالإيمان الذي دخلوا فيه اطمأنت به قلوبهم، فلما اطمأنت به قلوبهم عرفوا صدقه وصحته فلم يسخطوه، بل تداعوا لنصرته.
وسأله: هل قاتلتموه؟ فأخبر بأنهم قاتلوه، وأنه ينصر عليهم وينصرون عليه، وذلك من الابتلاء الذي يبتلي الله تعالى به أنبياءه ثم تكون العاقبة لهم.
ويبتلي أيضاً أتباع أنبيائه كما في الآيات التي سردها الشارح، وقد علق الشارح على هذا تعليقاً حسناً، وذكر أن الله تعالى يبتلي الأنبياء ويبتلي الأولياء، ثم بعد ذلك يفرج عنهم ليظهر من يصدق ممن يكذب، كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] .
فالابتلاء الذي يبتلي به عباده إنما يكون لإظهار صدقهم من كذبهم، ليتميز من يكون مؤمناً صادق الإيمان ممن هو دعي ليس بصادق الإيمان.
وسأله: هل يغدر إذا عاهدوه؟ فأخبر بأنه لا يغدر.
وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على أن يفي بالمواعيد، ولا يؤثر عنه غدر، وقد أمره الله تعالى إذا أحس أو خاف من قوم خيانة أن ينبذ إليهم عهدهم على سواء، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] أي: عهدهم على سواء، وقل لهم: قد تبرأنا من العهد، ولا عهد بيننا وبينكم، فاستعدوا للحرب، ولا تأتهم بغتة وهم آمنون غافلون باقون على عهدهم وعلى مواثيقهم.
وأما السؤال العاشر والأخير فإنه يتضمن شرعه الذي جاء به، فقد اعترف أبو سفيان بأنه يأمرهم بعبادة الله وحده، وهو التوحيد، وأنه ينهاهم عما يعبد آباؤهم من الأصنام، وهو الشرك بالله، وأنه يأمرهم بالأشياء التي يشهد العقل بسلامتها وبملاءمتها، ألا وهي الصدق في الحديث، وصلة الرحم، والصبر على الضراء والسراء ونحوها، والعفاف ونحوه، فهذه الخصال التي يأمر بها يشهد العقل بملاءمتها وحسنها.
فالحاصل أن أبا سفيان لما أخبره بذلك عرف هرقل ملك الروم أنها صفات نبي، وصدَّق أبا سفيان في تلك الصفات، وصدقه أيضاً رفقاؤه ولم ينكروا عليه، وهي صفات صحيحة منقولة مشهورة متواترة عنه، فكان ذلك من الأدلة التي اتضح بها صدقه.
فالحاصل أن صدق الأنبياء يعرف بالأمارات التي يتميزون بها، بحيث لا يخفى أمرهم على ذي عقل سليم.