ولاشك أن الناس يفرقون بين صادق الدعوى وكاذبها، فالناس يعرفون كل من يدعي وينتحل أمراً من الأمور وهو ليس من أهله، وذلك ليس يخفى على الفطن، فكل من أعطاه الله تعالى فطنة فإنه يميز بين الصادق والكاذب، فلو كان كاذباً -وحاشاه من ذلك- لما خفي كذبه على جمهرة الصحابة، سيما عقلاؤهم الذين صحبوه مدة طويلة قبل الرسالة وبعدها، وعرفوا صدقه، والتذوا باتباعه، وحمدوا العاقبة لما آمنوا به، وتمنوا أنهم مع السابقين الأولين الذين سبقوا إلى تصديقه واتباعه، وتفانوا في نصرته، وبذلوا في سبيل نصرته أموالهم وأنفسهم، وهجروا بلادهم وأولادهم وأزواجهم وعشائرهم، فلما وصل الإيمان إلى قلوبهم وذاقوا حلاوة العلم والإيمان رخصت عندهم الدنيا بأسرها، وبذلوا في ذلك نفوسهم قتلاً في سبيل الله، ذلك كله دليل على أنهم عرفوا صدقه كما يعرفون أولادهم وأحفادهم.
كذلك الكاذب في كل نحلة يعرف كذبه، فكل من انتحل شيئاً ليس له فإنه يظهر أمره ولا يخفى على فطناء الناس، وإذا عمل أي عمل وهو ليس من أهله وجرب ذلك وعرف منه، ابتعد عنه الناس وحذروا منه.
ومثَّل الشارح بالأعمال التي في زمنه، كالخياطة والكتابة والخرازة وما أشبهها، فهذه حرف يدوية قد يتعلمها الإنسان في زمن يسير، ولكن قد يتسمى الإنسان بأنه من أهلها، ويظهر بالتجربة أنه ليس من أهلها، حتى قال بعضهم: فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت ثوبك بالمداد يعني: إنك لست من أهل هذه الصنعة ولو فعلت ما فعلت.
وعرف بذلك أن كل من تعاطى شيئاً وهو ليس من أهله، فإن الناس يعرفون أنه كاذب ويظهر كذبه.
وهذه الدعوى التي جاء بها الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى إلى خلقه لاشك أنها دعوى كبيرة، فلو كانوا كاذبين لما أيدهم الله بما يدل على صدقهم، ولظهر كذبهم وفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ونكَّل بهم.
وساق الشارح هذه الآية، وهي قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] ، وقد أخبر الله تعالى بأن نبيه يعرف بعض المتسترين بأوصافهم الظاهرة، كما في قوله: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] يعني: بأمارات تظهر على وجوههم يعرف بها من هو صادق ممن هو كاذب.
فإذا كانت هذه الأعمال تعرف بالسيما أو بالأمارات الظاهرة، فلا شك أن أمارات النبوة تعرف لمن تأملها.