وقد ذكر العلماء أن العبودية لله تنقسم قسمين: عبودية عامة وعبودية خاصة.
فالعبودية العامة يدخل فيها جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وهي المذكورة في هذه الآية: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] ، والعبودية هنا معناها أن كلهم خاضع لتصرف الرب سبحانه وكلهم مملوكون له، فإذاً هم عبيد لله سبحانه، وهو الذي يحكم فيهم ويعدل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] يقوله الله يوم القيامة.
فالخلق عبيد لله بمعنى أنهم مملوكون، والله هو المالك لهم، فهم عبيده يتصرف فيهم، فهو الذي يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويمرض من يشاء ويشفي من يشاء، ويفقر هذا ويغني هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ويمنع هذا ويعطي هذا، ويتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه لا معقب له، فإذاً كلهم تحت تصرفه وتحت تقديره وفي قبضته، لا يخرج أحد منهم عن قبضته ولا يستقل بنفسه ولا بملكيته، بل إذا شاء الله انتزع ملكه من يده أو انتزع ما أعطاه له، فهذه عبودية عامة.
وأما العبودية الخاصة فهي التي ذكرت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الملائكة، وفي حق الأنبياء وغيرهم، وكذلك ذكرت في مواضع أخرى في حق أولياء الله كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] هؤلاء عبوديتهم خاصة.
وذكروا في قول الله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] أن هذه عبودية خاصة، وهذه العبودية مقتضاها ومدارها الذل لله تعالى والخضوع، وذلك أن العبد العابد متى شعر بأنه عبد لله مملوك له، وأن ربه المالك له يتصرف فيه كما يشاء، وأنه لا يملك التصرف لنفسه، ومتى شعر بأنه مخلوق مربوب ليس هو الذي خلق نفسه، ومتى شعر بأن خالقه على كل شيء قدير، ومتى شعر بأن ربه صادق الوعد فيما وعده به، ومتى شعر بأن ربه سبحانه قد وعده على الطاعة بالجزاء الأوفر وتوعده على المعصية بالعقاب الأكبر، إذا شعر بذلك ونحوه خضع لربه وخشع له، إذ التعبد التذلل الخضوع.
فأصل العبودية الذل، ومنه سمي العبد المملوك عبداً؛ لأنه ذليل لمالكه وسيده، فالخلق كلهم يجب أن يظهروا هذا التذلل طوعاً واختياراً، أن يظهروا الذل لربهم، والخضوع له، والتواضع بين يديه، والاستكانة له، وأن يعترفوا بذلك لربهم، وأنه هو المستحق لذلك وحده.
وقد فسرت العبادة التي أمر بها العبد بأنها غاية الذل مع غاية الحب، وذكر ذلك ابن القيم في النونية بقوله: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان فإذاً: العبد الحقيقي هو الذي يذل لربه ويخضع، وهو الذي يحب ربه غاية المحبة، وهو الذي يتعبد له غاية التعبد، والأنبياء كذلك، لاشك أنهم قاموا بهذا الوصف، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قام بهذا الوصف، واعتبر في حقه شرفاً، فإذاً ليس في كونه عبداً لله شيء من التنقص، بل العبودية لله غاية الشرف، والعبودية لله غاية العلم، والعبودية لله غاية الرفعة، والعبودية لله والرق له والذل له هي الأصل في الفضل وفي التمكين، فكذلك الأنبياء يعتزون بذلك؛ لأنهم يتعبدون لمالكهم، بل المالك الحقيقي التذلل له والرق له والانتماء إليه يعتبر شرفاً وفضلاً، كما قال ابن القيم على لسان العابد الذي يفتخر بالعبودية: إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم يعني: يفتخر إذا نسب إلى أنه عبد للرب سبحانه وتعالى، وقد يفتخر أيضاً بعض المماليك بانتمائه إلى الرق لبعض الملوك، فيقول: أنا لي الفخر أن أكون عبداً للملك الفلاني أو مملوكاً له، فإذا كانوا يفتخرون بالرق وبالملكية لبعض من الخلق، فكيف لا تفتخر أيها الإنسان بالرق وبالملكية وبالعبودية لرب الأرباب ومسبب الأسباب، وخالق الكون سبحانه وتعالى.