المشركون يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد الألوهية

قال رحمه الله: [ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] ، وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير وقصص الأنبياء وغيرها عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما قبيلة قبيلة] .

معروف أن الرسل دعوا إلى توحيد العبادة الذي هو توحيد الطلب والقصد، وهو التوحيد الإرادي العملي الذي طلبه الله من عباده وأمرهم به، وضده الشرك الذي هو دعوة غير الله تعالى معه، والأمم السابقة متفقون -كما سمعنا- على أن الخالق لهذا العالم واحد هو الله، ومع ذلك يدعون آلهة غيره ويسمونها آلهة، كما حكى الله عن قوم إبراهيم أنهم قالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] ، وأنهم قالوا لما كسرها: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] ، وقولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] ، وقولهم: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68] فسموها آلهة، ومعلوم أنهم يألهونها، أي: يحبونها ويعظمونها ويصرفون لها أنواع التأله، وهكذا فعل المشركون في العهد النبوي، فإن قصدهم إنما هو التقرب إليها.

وأما غرضهم منها فقد ذكره الله تعالى في قوله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] هذه مقالة المشركين، وكذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] ، ورد عليهم كما حكى عن الرجل المؤمن بقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23] ، فأخبر بأنهم إنما يريدون شفاعتهم، وأنهم لا يشفعون ولا تغني شفاعتهم شيئاً، وهذا هو قصد المشركين الأولين والمعاصرين سواء، وهو أنهم يريدون شفاعتهم، ويريدون التوسل بهم، ويزعمون أنهم لهم وجاهة ولهم صلاح، فلكونهم ذوي صلاح يشفعون لهم شفاعة تفيدهم إما في العاجل وإما في الآجل.

وأول ما حدث هذا الشرك في قوم نوح، كما حكى الله عنهم بقوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا} [نوح:23] الخ، فروى البخاري عن ابن عباس قال: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح.

كانوا رجالاً من أهل العلم ومن أهل العبادة ومن أهل الفضل، فلما ماتوا أسف تلامذتهم عليهم، فجاءهم الشيطان وقال: صوروهم وانسبوا صورهم حتى تتذكروا عبادتهم أو تتذكروا علومهم فتعملوا بها، فصوروا تماثيل وسموها بأسمائهم، هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، ولما ذهب أولئك الذين صوروهم ونشأ أولاد لهم جهال وصاروا يرون هذه الصور جاءهم الشيطان وقال: آباؤكم ما صوروهم إلا ليعظموهم؛ فإنهم من أهل الصلاح.

فعند ذلك عظموهم، وزادوا من تعظيمهم شيئاً فشيئاً إلى أن صاروا يصرفون لهم حق الله، ثم جاء الطوفان وأغرق من على الأرض، ولكن بقيت صور أولئك مدفونة حتى العصر الجاهلي، وأول من أثارها عمرو بن لحي بن خندف الخزاعي، وهو الذي يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم) ، فذكروا أن الشيطان تمثل له في صورة كاهن، وكلام الكهنة يكون مسجوعاً، فقال له: ائت جدة، تجد بها أصناماً معدة، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب.

ففعل فأخبره بأسمائها، فتفرقت هذه الأصنام الخمسة في العرب، وصارت معبودة إلى العهد النبوي، وهي صور قديمة من عهد نوح احتفظ بها وبأمثالها وصارت تعبد إلى العهد النبوي، فهذا أول شرك وآخره، وهو الشرك بعبادة الصالحين، وبتسميتهم أولياء أو سادة أو أفاضل أو أشرافاً، وهذه التسمية أوجبت للناس أن يغلوا فيهم حتى صرفوا لهم خالص العبادة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015