حديث عمران بن حصين ودلالته

[والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل، ثم صار فاعلاً.

ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تعالى له، ليس له من نفسه إلا العدم والفقر، والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تعالى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى] .

[وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟ واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟ وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] .

وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: (قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، -وفي رواية: (ولم يكن شيء معه) وفي رواية: (غيره) - وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض) وفي لفظ: (ثم خلق السموات والأرض) ، فقوله: (كتب في الذكر) ، يعني: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] سمى ما يكتب في الذكر ذكراً، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتاباً.

والناس في هذا الحديث على قولين، منهم من قال: إن المقصود إخباره بأن الله كان موجوداً وحده، ولم يزل كذلك دائماً، ثم ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتداء الفعل ولا كان الفعل ممكناً.

والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام، ثم استوى على العرش، كما أخبر القرآن في غير موضع.

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) .

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه بخمسين ألف سنة، وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء] .

[ودليل صحة هذا القول الثاني من وجوه: أحدها: أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) ، وهو إشارة إلى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي: الذي كونه الله بأمره، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السموات والأرض حال كون عرشه على الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض.

وأيضاً فإنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) ، وقد روي (معه) ، وروي (غيره) ، والمجلس كان واحداً، فعلم أنه قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، ولفظ (القَبْل) ثبت عنه في غير هذا الحديث.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) الحديث.

واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كان كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ (القَبْل) ، كـ الحميدي والبغوي وابن الأثير.

وإذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.

وأيضاً فإنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله -أو (معه) أو (غيره) - وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء) .

فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو، و (خلق السموات والأرض) روي بالواو وبثم] .

قال رحمه الله تعالى: [فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك، وذكر السماوات والأرض بما يدل على خلقهما، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده، ولم يتعرض لابتداء خلقه له، وأيضا فإنه إذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل، فإذا رجح أحدهما فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر فهو مخطئ قطعا، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث، ولم يرد (كان الله ولا شيء معه) ، مجرداً، وإنما ورد على السياق المذكور، فلا يظن أن معناه الإخبار بتعطيل الرب تعالى دائما عن الفعل حتى خلق السماوات والأرض، وأيضا فقوله صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولاشيء قبله أو معه أو غيره، وكان عرشه على الماء) ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلا؛ لأن قوله: (وكان عرشه على الماء) ، يرد ذلك؛ فإن هذه الجملة -وهي: (وكان عرشه على الماء) - إما حالية أو معطوفة، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت، فعلم أن المراد: ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود] .

يتكلم المصنف على أحاديث عمران بن حصين لما جاء أهل اليمن يسألون عن أول هذا الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء) ، أخبر في هذا أن الله تعالى هو الأول ولم يكن شيء قبله، وذلك تحقيق للأولية المذكورة في الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، فلم يكن شيء قبله، وهذا لا يدل على أنه تعالى كان معطلاً عن الأفعال لم يكن يخلق، بل يدل على أنه خالق، فإنه ذكر أن عرشه على الماء دليل على أنه قد خلق العرش، وأنه قد خلق الماء، وأنه قد خلق مخلوقات قد تكون موجودة وقد تكون معدومة، فلا بد أن يكون خالقاً، فالله تعالى لم يكن معطلاً عن الخلق، ويعتقد المسلمون أن الله تعالى قديم، وأنه قديم بأفعاله، وأنه الذي ليس قبله شيء، وأن من أعظم مخلوقاته العرش، وقد ورد في عظم العرش ما يدل على أنه أقدم وأعظم أو من أعظم المخلوقات، فقد ذكر الله سعة كرسيه في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وقيل: إن الكرسي كالمرقاة بين يدي العرش، فالكرسي قد وسع السماوات والأرض مع عظم السماوات ومع عظم الأرض.

وورد في بعض الآثار أن السماوات والأرض في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، والترس: هو المجن الذي يلبس على الرأس وما عسى أن تغطي الدراهم السبعة، فالدرهم قطعة من الفضة صغيرة بقدر الظفر أو نحوه، فماذا تغطي من ذلك الترس؟ فالسماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي هذا مقدارها منه، والكرسي صغير أيضاً بالنسبة إلى العرش، كما ورد أن الكرسي نسبته إلى العرش كحلقه ملقاة بأرض فلاة، والحلقة: القطعة من الحديد ملتقية الطرفين.

فإذا ألقيت حلقة في فلاة فماذا تشغل من تلك الفلاة؟ فالكرسي صغير بالنسبة إلى العرش، فهو كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فهذا دليل على عظم هذا الكرسي ثم عظم هذا العرش، وإذا كان هذا عظمه فإنه مخلوق، فالعرش مخلوق ليس قديماً، بل هو مخلوق، وإذا كان هذا عظم هذا المخلوق فما ظنك بعظمة الخالق؟ والله تعالى قد ذكر أنه يقبض المخلوقات في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، وذكر ابن عباس أن السماوات والأرض في كف الرحمن كحبة خردل في يد العبد.

وماذا تشغل حبة الخردل في يد عبد؟ وكل ذلك دليل على عظمة الخالق، ولا شك أن من اعتقد عظمته وكبرياءه خافه وهابه وعبده حق العبادة، ولكن لا ينبغي الخوض في الأمور الغيبية التي ليس عليها دليل وبرهان، والتي يؤدي الخوض فيها إلى حيرة وإلى شك، وكثيراً ما يشتكي بعض النساء وبعض الرجال أنهم يلاقون حيرة ويلاقون شكاً وتأتيهم وساوس إذا بحثوا في مثل هذه الأمور، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عند ذلك بالاستعاذة من الشيطان وبالإيمان بالله، فإذا وقعت في قلب الإنسان هذه الأوهام وهذه التشكيكات فإنما عليه أن يقول: آمنت بالله، وأن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن يقبل كل ما جاءه عن الله، وأن يتقبل ذلك كله، ويبعد عنه كل ما يجلب حيرة أو وهماً أو وسوسة أو نحو ذلك، فيقطعها ويجعل حديث نفسه وخوضه وخوضها في الشيء الذي ينفعه، ويؤمن بالإجمالات التي أخبر الله بها عنه حتى يكون بذلك مطمئن القلب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015