نحمد الله على ما قضى وقدَّر، وعلى ما دبَّر ويسَّر، فهو أهل الحمد والثناء، يستحق الحمد على السراء والضراء، إذا ابتلى بالخير فهو أعلم بذلك وبمن يصلح له، وإذا ابتلى بالشر فهو أعلم بمن يبتليه، وبالأسباب التي يبتلي بها ولأجلها.
إذا مس بالخيرات عم سرورها وإذا مس بالضراء يعقبه الأجر في هذا المسجد قبل ثلاثة أيام شهدنا حشداً عظيماً، وجمعاً كبيراً، يجهِّزون ويودعون عالماً من علماء المسلمين، يحضرون من كل فج، ومن كل جهة؛ لأجل أن يشيعوه، وأن يحضروا الصلاة عليه، ألا وهو شيخنا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، الذي وافاه أجله قبل ثلاثة أيام، والذي فقد المسلمون به عالماً جليلاً، وشيخاً كبيراً، بذل جهده، وأفرغ وسعه، وقام لله تعالى بما يستطيع، وجاهد في الله حق جهاده، جاهد بقلمه، وجاهد بلسانه، ورد على أعداء الله الذين يحاولون النيل من كتاب الله، أو من سنة رسوله، أو من دينه، فأبطل كيدهم، ورد أباطيلهم، وبين الحق أوضح بيان، قد أعطاه الله ووهبه علماً وحفظاً وفهماً، وذاكرةً قويةً، ومعرفةً بالأدلة وبمواضعها، ومعرفةً بسبك الكلمات وبرصفها، وبكيفية جمعها، حتى تكون كافية ومقنعة.
لا شك أن فقد العلماء مصيبة عظمى، مصيبة كبيرة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) نخشى أن يقبض العلم من بيننا، ولا يبقى فينا من يكون أهلاً لتحمل العلم؛ لأجل ذلك يجب أن نبذل جهداً ووسعاً في أن نتحمل من العلم ما نكون أهلاً به أن نذبَّ عن دين الله، وأن نجاهد في سبيله، وأن نبلغ شريعته، وأن نقوم لله مثنى وفرادى كما يقوم العلماء المجاهدون العارفون بالله أمثال هذا الشيخ رحمه الله؛ مخافة أن يطغى الجهل على العلم، ويطغى الشرك على الإيمان، وتعظم المصيبة في هذا الدين، وتعظم البلوى بأعداء الدين.
وقد كان العلماء رحمهم الله دائماً يبكون على علمائهم إذا فقدوهم، ويخشون أن يكون هذا سبباً لنقص العلم ولتلاشيه، يقول ابن مشرف رحمه الله في نظمه لرثاء العلم: على العلم نبكي إذ قد اندرس العلم ولم يبق فينا منه روح ولا جسم ولكن بقي رسم من العلم داثر وعما قليل سوف ينطمس الرسم وليس يفيد العلم كثرة كتبه فماذا تفيد الكتب إن فقد الفهم وعار على المرء الذي تم عقله وقد أُملت فيه المروءة والحزم إذا قيل ماذا أوجب الله يا فتى أجاب بـ (لا أدري) وأنى لي العلم وأقبح من ذا لو أجاب سؤالَه بجهل فإن الجهل مورده وخم نقول: إننا في زمان ينقص فيه العلم، والمراد: العلم الشرعي، العلم الحقيقي الذي هو العلم بالله وبآيات الله، والعلم بشريعته، والعلم بكتابه وبسنة نبيه، والعلم بتوحيده وبحقوقه، ولو كثر العلم الآلي الذي كثر ادعاؤه، وكثر تعلُّمه، العلوم الآلية، وعلوم الحرف، وعلوم الصناعات، والعلوم الدنيوية، لقد كثر الذين ينتحلونها ويتعلمونها واحداً بعد واحد، لا شك أن هذا من الإعراض عن العلم الأصلي.