قال الشارح رحمه الله: [ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام: قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة، وقسم يتعرضون بها لعذاب الله، وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات، كما تقدم.
وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله.
وكلمات الله نوعان: كونية ودينية: فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] ، والكون كله داخل تحت هذه الكلمات، وسائر الخوارق.
والنوع الثاني: الكلمات الدينية، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي أمره ونهيه وخبره, وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العباد عموماً وخصوصاً العلم بالكونيات والتأثر فيها، أي بموجبها.
فالأولى تدبيرية كونية، والثانية شرعية دينية، فكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية.
وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، إما في نفسه كمشيه على الماء، وطيرانه في الهواء، وجلوسه في النار، وإما في غيره، بإصحاح وإهلاك، وإغناء وإفقار.
وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، إما في نفسه بطاعة الله ورسوله والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطناً وظاهراً، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية.
فإذا تقرر ذلك، فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيئاً من الكونيات: لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، فإن الخارق قد يكون مع الدين، وقد يكون مع عدمه، أو فساده، أو نقصه.
فالخوارق النافعة تابعة للدين، خادمة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال النافع بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فمن جعلها هي المقصودة، وجعل الدين تابعاً لها ووسيلة إليها، لا لأجل الدين في الأصل: فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب، أو رجاء الجنة، فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة، وشريعة صحيحة.
والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همه قد ارتفع عن أن يكون خوفاً من النار أو طلباً للجنة يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا!! ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلابد أن يوجب خرق العادة، إذا احتاج إلى ذلك صاحبه.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] .
وقال تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66-68] .
وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62-64] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] ) رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقال تعالى فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه) .
فظهر أن الاستقامة حظ الرب، وطلب الكرامة حظ النفس، وبالله التوفيق.
وقول المعتزلة في إنكار الكرامة: ظاهر البطلان، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات.
وقولهم: لو صحت لاشتبهت بالمعجزة، فيؤدي إلى التباس النبي بالولي، وذلك لا يجوز، وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً، بل كان متنبئاً كاذباً، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبئ، وعند قول الشيخ: وأن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى.
ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا: أن الفراسة ثلاثة أنواع: إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة، ومنها اشتقاقها، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة.
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب، وهي من مقامات الإيمان.
انتهى.
وفراسة رياضية، وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان، ولا على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء، ونحوهم.
وفراسة خَلقية، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم، واستدلوا بالخَلق على الخُلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره على كبره، وسعة الصدر على سعة الخلق، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك] .
وأهل السنة والجماعة يصدقون بكرامات الأولياء، وهي تعتبر كرامة لمن جرت على يديه، ولا تعتبر نقصاً فيمن لم تحصل له تلك الكرامة، وهناك من أنكر تلك الكرامات كالمعتزلة، فادعوا أنها لو حصلت لحصل الاشتباه بينها وبين معجزات الأنبياء، وبين العلماء أن الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: معجزات، وهي تختص بالأنبياء، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثلها، كمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، ومعجزات موسى وعيسى وغيرهم، وهي التي ذكرت في السنة، وحكيت عن الأنبياء في القرآن.
القسم الثاني: كرامات أكرم الله بها بعض أوليائه الصالحين، ويعتبرها العلماء دالة على صدق نبوة الأنبياء؛ وذلك لأنها ما حصلت لهم إلا باتباعهم لأنبيائهم، فأتباع نبينا صلى الله عليه وسلم حصلت لهم كرامات؛ بسبب إيمانهم وتصديقهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وتمسكهم بشريعته، فكانت تلك الكرامات منة من الله عليهم، وتقوية لإيمان بعضهم، وقطعاً لحجة من خالفهم أو طعن في معتقدهم، وكذلك أجراها الله على أيديهم لإظهار الحق الذي هم عليه، وبيان صحة ما يدعون إليه، وكذلك أجراها الله للدلالة على أنهم على دين صحيح، وأن نبوته صلى الله عليه وسلم نبوة حق ليس فيها فرية ولا توقف، وقد ذكر العلماء جملة كثيرة من تلك الكرامات، وأفردت بالتآليف، وذكروا أن الله تعالى أجراها على أيديهم كما أجرى المعجزات على أيدي الأنبياء؛ للدلالة على أن كل النبوات من عند الله تعالى، فكما أن الله جعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً فكذلك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلم عالم هو أبو إدريس الخولاني ألقي في النار ولم تضره، بل كانت عليه برداً وسلاماً، فكان في هذه الأمة من جرى له مثل ما جرى للخليل عليه السلام.
وكذلك جعل الله البحر لموسى طريقاً يبساً -كما أخبر بذلك- فسلكه هو وقومه ولم تبتل ثيابهم ولا أقدامهم، وجرى مثل ذلك للعلاء بن الحضرمي، حيث خاض البحر هو وجنده المقاتلون، ولم يفقدوا من متاعهم شيئاً، وكأن البحر يبس، فكانوا يسبحون فوقه دون أن يغرقوا فيه مع عمقه، وهذه كرامة للعلاء رحمه الله، وأمثال ذلك كثير.
القسم الثالث: الأحوال الشيطانية التي تجري على أيدي السحرة والمشعوذين، وهذه الأحوال الشيطانية هي ما يتمكن منه السحرة من الصرف والعطف وتغيير الحقائق وقلب الأشياء، وكذلك ما يفعلونه من قطع المسافات، ومن حمل الأثقال، والطيران في الهواء، ونحو ذلك في زمن قصير، وهذه الأحوال تسمى أحوالاً شيطانية، وهي تجري بسبب خدمتهم للشياطين، فهم يتقربون إلى الشياطين وإلى مردة الجن بما يحبون، فتجري على أيديهم المخارق، والشعوذة، والتغيرات النفسية، ولكنها تبطل بإذن الله إذا عولجت بالآيات القرآنية والأدعية النبوية.
فما يحصل من أعمال السحرة والمشعوذين ونحوهم، من صرف وعطف، وإلقاء بغضاء بين متحابين، وإلقاء تقابل قوي بين المتباغضين، وكذلك من تغيير لمزاج بعض الناس إذا عملوا له سحراً شيطانياً ونحو ذلك؛ فهذا لا يسمى كرامة ولا فضل فيه، بل هو من عمل الشياطين؛ وذلك لأن هؤلاء السحرة والكهنة ونحوهم يتقربون إلى الشيطان، ويذبحون له، ويطيعونه حتى يخدمهم ويطيعهم فيما يشيرون إليه، فتصير الشياطين والجن خدماً لهذا الكاهن الذي عبدهم وذبح لهم، وركع للشياطين وسجد، وأشرك بالله، فصار من خدمهم، فأصبح بذلك من أعوانهم، فهم يتلبسون به، وينطقون على لسانه، ويخبرون بالأشياء الغيبية والبعيدة ونحوها، وكذلك يخبرون بالغائب والمسروق وما أشبه