المؤمنون بعضهم يتولى بعضاً، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] ، هكذا أخبر (بعضهم أولياء بعض) كما أن الكفار يتولى بعضهم بعضاً، كما أخبر الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] يعني: لا تتولوا أعداء الله، بل يكفيكم أن تكونوا جميعاً أولياء لله وأولياء لبعضكم، يكفيكم أن يتولاكم الله وأن تكونوا من أولياء الله.
هذه عقيدتنا، ونرجو إن شاء الله أن نتوفى على هذه العقيدة، وهي أن المسلمين والمؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأن من تولى الله فإنه من أوليائنا، وأن جميع من آمن واتقى فهو من أولياء الله.
وقد ذهبت الصوفية إلى أن هناك أولياء خصيصون، فهم يسمون الأولياء، وأما بقية المؤمنين فلا يصلون إلى درجة الولاية، وجعلوا الذي سموه ولياً أرفع رتبة من النبي، وجعلوا النبي أرفع رتبةً من الرسول، وهذا مخالفة لشرع الله، ومر بنا في الشرح البيت الذي يستشهدون به، وهو قولهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فجعلوا النبوة منزلة وسطى، وجعلوا الرسول المنزلة الدنيا، والولي المنزلة الرفيعة، فقالوا: إن الولي هو الأعلى، ويليه النبي، وأنزل منه الرسول، فمقام النبوة جعلوه في الوسط: فويق الرسول ودون الولي هكذا مثلوا، وفضلوا كثيراً ممن سموهم أولياء على جميع الرسل، وفضلوهم على الأنبياء، وقالوا: إن الولي غني عن الشرع، وغني عن القرآن، وغني عن هذا الدين، لماذا؟ لأن له ولاية رقته إلى رتبة عالية، فأصبح يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي ينزل على الأنبياء والرسل، وروح هذا الولي عندهم تتصل بالملأ الأعلى، وتطلع على اللوح المحفوظ، وتأخذ منه المعلومات، وتنال منه مرادها، ويستغني الولي عن هذا الشرع، وعن هذا القرآن، وعن هذه العبادات كلها؛ ولأجل ذلك جعلوه في رتبة عالية، وقالوا: إنه يأخذ بسره أو بسريرته، وأنه يحدثه قلبه عن ربه، يقول بعض الأولياء: حدثني قلبي عن ربي، ويسمون ذلك مكاشفة أو باطناً من البواطن التي لا يطلعون عليها غيرهم.
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأفعال أو قلت قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والإمام العالي أو قلت قال صحابهم من بعدهم فالكل عندهم كشبه خيال لا يعتبرون بذلك كله، ويقول: قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفا أحوالي عن حضرتي عن فطرتي عن خلوتي عن شاهدي عن وافدي عن حالي عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحال نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم نبذ المسافر فضلة الآكال هذه الاصطلاحات التي اتفقوا عليها يدعون أنهم تفوقوا بها على المسلمين وعلى الإسلام وعلى أولياء الله المؤمنين من الصحابة والتابعين ونحوهم، ويستغنون بها في زعمهم عن الشرع الشريف وعن أهله، وقد حدث من آثار ذلك أنهم عظموا هؤلاء الذين ادعوا أنهم أولياء أو ادعوا لهم الولاية، وعبدوهم من دون الله، فما عبدت القبور إلا بالغلو في الصالحين، فإن الشيطان صار يزين لهم أن هذا ولي، وقد سقطت عنه التكاليف، وأنه لا حرج عليه فيما يفعل، وأنه قد ارتقى قلبه إلى ربه، وأنه مستغنٍ عن الشرع وعن أهل الشرع، فـ السيد البدوي المشهور بطنطا في مصر إلى الآن يعتقدون أنه لا يدخل مصر أحد إلا من بعد أن يأذن له السيد البدوي، فهو الذي يتصرف في الكون كله، وعندهم أنه مالك الملك، تعالى الله عن قولهم، فلأجل ذلك لا ينكرون عليه ترك العبادة، سمعت من بعض المشايخ يقول: إنه عرف أنه دخل مرة المسجد، والناس في الصلاة، فبال في المسجد وخرج ولم يصل، فسمعوه وقالوا: مجذوب مجذوب، قلبه عند ربه، وجعلوا يتمسحون به! وأمثاله كثير، ولا يكون عليهم أي حرج، ويسمونهم الأولياء، وأنهم لا حرج عليهم في أي شيء، كما قال الصنعاني رحمه الله: كقوم عراة في ذرى مصر ما ترى على عورة منهم هناك ثياب يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب يمشون عراة، ويقولون: لا حرج عليهم، قلوبهم في الملأ الأعلى، يشتغلون عن الشرع! هكذا وصلت الحال بهم إلى أن أسقطوا عنهم -بزعمهم- التكاليف، وإذا رأوا مجنوناً من هؤلاء المجانين الذين رفع القلم عنهم لفقد عقله، أخذوا يتمسحون به، وقالوا: هذا ولي من أولياء الله، وإذا مات أحدهم فشيّع، يزعمون أن الملائكة تحمله، وإذا جعلوه فوق السرير على النعش، يخيل إليهم أنه قد ارتفع عن المناكب، وأنه يطير في الهواء على نعشه، وكل هذا تخييل من الشيطان، وهكذا كل الذين عبدوا من دون الله، فإنهم ما عبدوا إلا بسبب أن الجهلة غلوا فيهم، واعتقدوا فيهم أنهم أولياء لله من دون الناس.