هذا الكلام في الرد على غلاة الصوفية من الحلولية والاتحادية، وهم مبتدعة نشأ أولهم في آخر القرون المفضلة، ثم توسعوا وانتشروا وكثروا في أواسط القرون، وصار لهم مذاهب ونحل، ولا يزال لهم أتباع يدعون إلى طرقهم مع الأسف، ويدعون إلى مذاهبهم، فمن مذاهبهم طريقة النقشبندية، وطريقة الشاذلية، وهي طرق مشتهرة، لها دعاة يدعون إليها، وهناك طرق أخرى لها أتباع، وأشهرها طريقة التيجانية، فهؤلاء ماذا نسميهم؟ هم يسمون أنفسهم صوفية، ولهم أتباع، فالذين رئيسهم النقشبندي ينتسبون إليه، وهكذا أتباع الشاذلي، وأتباع عبد القادر الجيلاني، وأتباع الاتحادي ابن عربي، وأشباههم، والكلام عليهم قد استوفاه الأئمة المتقدمون والمتأخرون، ومن أوسع من رأيته تكلم على طريقة الصوفية من المتقدمين ابن الجوزي في كتابه الذي سماه: تلبيس إبليس، فإنه لما تكلم على الصوفية جعل فيهم نحو نصف الكتاب أو قريباً منه، مع أن الكتاب في ذم كل من عنده بدعة أو نحلة في زمانه، ولكن حمل على الصوفية؛ ولعله حمل عليهم لكثرتهم في زمانه، وذكر أشياء كثيرة منتقدة من طرقهم، وفي زماننا كتب فيهم عالم مصري يقال له: عبد الرحمن الوكيل كتابين: الكتاب الأول بعنوان: صوفيات، والكتاب الثاني بعنوان: هذه هي الصوفية، وقد فضح مناهجهم وطرقهم، ولعله شاهد عبادتهم في بلاده، فإنهم منتشرون في مصر والسودان، وفي أكثر البلاد الإفريقية متمكنة طرقهم، ولهم مبادئ، ويمدحون أنفسهم، ويمدحون طريقتهم، ويدعون أنهم الذين حفظوا الإسلام، والذين كافحوا ونافحوا عنه، ويدعون أنهم الذين قاموا به أتم قيام، ودعوا إليه وبلغوه، وأنه هدى الله بهم من أراد هدايته، وأنقذ بهم من أراد به خيراً، هكذا يعبرون، ومع الأسف قد انتشروا في هذه البلاد، فيوجدون بكثرة في الحجاز، ويوجدون في الشرقية، أما في وسط نجد فإنهم قلة والحمد لله، لكن لأولئك من يؤيدهم ويتبعهم وإن لم يكن على نحلتهم.
حدثت الصوفية في أول الأمر في نصف القرن الثاني، وكثروا في القرن الثالث، ولكن الصوفية الذين في القرن الثاني والثالث لم يكن عندهم بدع، وسماهم السلف رحمهم الله صوفية؛ لأنهم رضوا بالتخشن وبالتقشف وبالزهد، وصاروا يرتدون لباس الصوف الخشنة، أي: اللباس الذي ينتج من صوف الضأن، فكانوا يلبسونه مع خشونته، كل ذلك من باب التقشف والزهد، واشتهر منهم علماء وعبّاد في صدر هذه الأمة، فمنهم: إبراهيم الخواص وهو عابد مشهور متمسك، وإبراهيم بن أدهم، الذي له حكايات وله وقائع مشهورة، والجنيد بن محمد وبشر الحافي ومعروف الكرخي وأشباههم، فهؤلاء كانوا يسمون صوفية في زمانهم، ولكن ليسوا على معتقد الصوفية المتأخرين، بل هم زهاد، واسمهم في الأصل زهاد وعباد، وهم مبتعدون عن شهوات الدنيا وزينتها، مقبلون على العبادة، لا يريدون الدنيا، يقنعون منها باليسير، ذكروا أن بعضهم سمي إبراهيم الخواص؛ لأنه كان يأكل من كسب يده، يتتبع ما يلقيه الناس من الخوص، ثم ينسجه ويبيع منه بقدر ما يقتاته، وبقية وقته للعبادة، فجلّ أوقاتهم عبادة، فهؤلاء ليسوا مذمومين، خلافاً لبعض المتأخرين الذين أدخلوا كل من أطلق عليه صوفي في الذم، منهم علماء معتبرون دخل عليهم شيء من البدع المتأخرة، ولعلكم قرأتم للحارث المحاسبي شيئاً من رسائله التي تتعلق بالتصوف ومحاسبة النفس وما أشبهها، والحارث هذا معه علم ومعه زهد، ولكن دخل عليه بسبب قلة علمه شيء من بدع المتصوفة ونحوهم، فصار معه بدع، ولكن لم تصل بدعته إلى بدعة المتصوفة المتأخرين، فلأجل ذلك أُنكر عليه بعض الأشياء، ولكنها قليلة، وهو على طريقة الصوفية المتقدمين الذين هم أهل الزهد وأهل التقلل.
وفي آخر أو في وسط القرن الثالث ظهر منهم بعض المشتهرين بالعبادة مثل الشبلي وهو عابد من العباد، وله أشعار منقولة في الزهديات، ولكن حفظ عليه بعض الأشياء انتقدت عليه، ومنهم أبو يزيد البسطامي وقد نقل عنه بعض الأشياء التي فيها شيء مما يفهم منه أنه على طريقة أهل الاتحاد، فقد نقل عنه ابن الجوزي في تلبيس إبليس أشياء مستنكرة، منها أنه سُمع يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني ومنها أنه كان مرة يمشي، فالتفت إلى أناس وراءه فقال لهم: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون! ومقالات نحو هذه، وبعضهم حملها على أنه زاد به الوجدان فصار إلى هذه الحال، وتأولها بعضهم بأنه يحكي عن الله، أو ما أشبه ذلك، ولكن أكثر من أنكر عليه رجل في آخر القرن الثالث يسمى الحسين الحلاج فيحكون عنه عجائب، ويحكون عنه وقائع عظيمة بشعة شنيعة وقد قتل في سنة ثلاثمائة وتسعة، ومن قرأ ترجمته في تاريخ ابن كثير يرى عجائب مما نقل عنه، حيل كان يحتال بها ويوهم الناس أنه ولي، وأنه وأنه، وأجمع أهل زمانه على أنه محكوم بكفره، فقتل لذلك، ولو أنكر قتله من أنكره.
فهذا أساس مبدأ الصوفية.