تكلم العلماء على الخلفاء الراشدين وهم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وقالوا: هؤلاء هم الخلفاء الراشدون، وتسميتهم تسمية نبوية لحديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) فجعلهم خلفاء، والخليفة هو الذي يخلف غيره، وسماهم رأس الدين، والراشد هو: ضد الغاوي، أي أنهم على رشد، ووصفهم أنهم مهتدون غير ضالين، فهذه إشارة إلى خلافة هؤلاء الأربعة، وكذلك من سار على نهجهم أو اقتدى بهم كـ عمر بن عبد العزيز، فقد قيل: إنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه أشبه سيرتهم، كذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخلافة ثم الملك بحديث سفينة الذي قال فيه: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وقد كان ذلك، فإن خلافة أبي بكر سنتان ونصفاً، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة، فهذه أربع وعشرون سنة ونصف سنة، وخلافة علي خمس سنين إلا بعض السنة، وتتمتها خلافة الحسن فأصبحت هذه ثلاثين سنة أو نحوها، وهذه هي الخلافة التي أخبر بأنها خلافة نبوة، ثم بعدها يكون ملكاً؛ وذلك لأن الملك لما انتقل إلى معاوية ثم إلى بني مروان أصبحوا كأنهم يعملون عمل الملوك، ولو كان فيهم شيء من السيرة الحسنة والجهاد، لكن عملهم ليس كعمل الخلفاء الراشدين، حيث إنهم جعلوها وراثة، وصاروا يعهدون بالخلافة إلى أبنائهم أو من يطلب منهم، فأصبحت الخلافة النبوية ثلاثين سنة ابتدأت بخلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد أجمع الصحابة على تقديمه وفيهم أهل البيت كـ علي والحسن والحسين والعباس وابن العباس، وجميع الصحابة اتفقوا على خلافة أبي بكر، والله تعالى لا يجمع الصحابة على ضلالة، فلا يجتمعون إلا على حق، وهذه حجة قوية في صحة خلافة أبي بكر، فأين الرافضة من هذا الإجماع؟ الرافضة يقولون: إن أبا بكر مغتصب، وأنه تجرأ على شيء ليس له، وأن الصحابة خانوا هذه الأمانة التي هي عهد لـ علي بالخلافة، ولكن خانوا في ذلك وكتموا، وبايعوا أبا بكر خيانة وضلالاً، وظلموا حق علي، هكذا يقولون! ومعناه: أنهم كلهم أجمعوا على هذا الظلم وحاشاهم من ذلك، ولا شك أنهم عندما بايعوا أبا بكر عملوا بهذه الإشارات التي سمعنا من الأحاديث الدالة عليها، فإن قوله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة لما قالت: (أرأيت إن لم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر) كأنها أشارت إلى أنه قد يأتيك الموت أو نحوه فمن يكون بعدك؟ ومن آتيه بعدك لقضاء حاجتي؟ فقال: (ائتي أبا بكر) فدلت هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الذي يقوم بالخلافة بعده كما هو الواقع.
كذلك هذا الحديث الذي روته عائشة وهي من أمهات المؤمنين، ولا يمكن أن تكذب في حق أهلها، ولا في حق غيرهم، تذكر أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً بالولاية لـ أبي بكر: (ائتوني بكتاب أكتب فيه عهداً لـ أبي بكر) ولكن علم بأن الله تعالى يجمع الصحابة على استخلافه وتوليته، فترك الكتابة ثقة بما كانوا عليه من معرفة حقه، وقال: (يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر) يعني: أنهم يعرفون أحقيته وأقدميته، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قدمه في الصلاة لما مرض وثقل وصعب عليه أن يتولى الصلاة بهم، وبقي أياماً -قيل: خمسة أيام، وقيل: سبعة، وقيل: أكثر أو أقل- وفي تلك الأيام كان الذي يصلي بالمسلمين هو أبو بكر، وذلك بأمر النبي لما قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت له مثل ذلك، فكرر ذلك ثم قال: إنكن صواحب يوسف) فأكد أن أبا بكر هو الذي يصلح أن يكون إماماً، وقد تولى هذه الإمامة التي هي الصلاة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أن توفي صلى الله عليه وسلم نظر الصحابة في أمر خلافته فقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه نبينا لديننا.
بمعنى أن: نبينا صلى الله عليه وسلم رضيه إماماً لنا في ديننا، حيث كان يصلي بنا، فذلك دليل على أفضليته؛ لأجل ذلك نرضاه أن يكون إماماً لنا عاماً في هذه الولاية التي فيها إصلاح دنيانا وضبط أحوالنا، وهكذا اتفقوا على توليته الخلافة.
ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خطب في آخر حياته قبل مرضه بزمن قليل فقال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: نفديك بأنفسنا وأهلنا، فعجب الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن هذا العبد الذي خيره الله وأن أبا بكر يبكي ويقول هذه المقالة، فلما قال ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من أمن الناس علي في نفسه وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ثم قال: (لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر) وهنا دليل على أنه مقدم في هذا الأمر، فالخلة هي: المحبة، فيقول: إنه أحق الناس في أن يكون لي خليلاً، وأن تكون له الخلة، فلو كنت متخذاً خليلاً لكان هو أحق بأن أتخذه، ثم أمر أن تسد النوافذ التي تطل على المسجد إلا نافذة أبي بكر، لأن الصحابة كانوا قد بنوا بيوتهم إلى جانب المسجد، وفتحوا عليه أبواباً، فهذا الباب يدخل منه فلان من بيته إلى المسجد، وذلك الباب لفلان، فأمر بأن تسد تلك الأبواب التي تسمى خوخات، وتبقى خوخة أبي بكر، لماذا؟ إشارة إلى أنه سيتولى الخلافة، وسيحتاج إلى أن يدخل المسجد ويخرج ويتكرر دخوله، وذلك دليل على أنه سيتولى، والنبي عليه الصلاة والسلام علم بأنه سيكون والي المسلمين بعده، فأمر بإبقاء خوخته حتى لا تتغير.
هذه الأدلة فيها إشارات، ولكن مجموعها يكون صريحاً، أما الإشارة الأولى فهي قصة القليب، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (رأيتني على قليب -القليب هو: البئر التي فيها ماء- أنزع منها -يعني: أجتذب الماء بدلوي- فنزعت منها ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها أبو بكر -جعل أبا بكر هو الذي أخذها بعده- فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له -أي: وذلك لقصر مدته- ثم أخذها ابن الخطاب -يعني: عمر -فاستحالت غرباً -والغرب هو: الدلو الكبير الذي يستقى به من الآبار، والذي تجتذبه السواني أو النواضح قديماً- فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) وذلك لأن مدته طالت حتى بلغت عشر سنين، وفي مدته اتسعت رقعة الإسلام، وفتحت الأموال على بيت المال، وكثرت جبايتها، أوليس في هذا إشارة إلى أن الذي يأخذ الخلافة بعد النبي أبو بكر، ثم لا تطول مدته، ويأخذها بعده عمر فتطول مدته؟ الإشارة الثانية: قصة ذلك الدلو الذي تدلى من السماء في رؤيا الرجل، حيث يقول: رأيت أن دلواً تدلى من السماء فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذه أبو بكر فشرب منه، ثم أخذه عمر فشرب منه حتى تضلع، ثم عثمان، ثم علي، إلا أنه انتزع منه فأصابه منه نضح، أليس في هذا دليل على ترتيبهم في هذه الخلافة، وأن الذي شرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم يكون خليفة بعده، وهو أبو بكر، ثم بعد أبي بكر عمر، ثم عثمان ثم علي؟ فهذه إشارة إلى خلافتهم.
كذلك أيضاً: بعض الإشارات التي تكون إما في صورة رؤيا أو قصص واقعية لا شك أن فيها إشارة واضحة إلى أن هؤلاء يكونون خلفاء بعده صلى الله عليه وسلم.
وبكل حال نقول: إن هذه الإشارات من مجموعها يجزم بأنها نص صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر وجعله خليفة بعده، وسيأتي ذكر قصة بيعته وكيف اجتمع الصحابة على بيعته وفضلوه، ومعروف أنهم لم يختاروه إلا لميزة تميز بها.