قال رحمه الله: [وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات] هذا الكلام تقشعر منه الجلود، وهذه التفريعات فروع لمذهب أهل الوحدة، وهم طائفة يقال لهم: أهل وحدة الوجود.
أو يسمون (أهل الحلول والاتحاد) ، وهم الذين يقولون: إن ذات المخلوق حالة بذات الخالق، وإنه لا فرق عندهم بين خالق ومخلوق، بل الكل شيء واحد، لا فرق بين الخالق والمخلوق -تعالى الله عن قولهم-، وهذه الطائفة كانت منتشرة في القرون الوسطى، وأكثر من أشاع هذا القول في القرن الثالث رجل يقال له: الحسين الحلاج، وهو صوفي أظهر التصوف وأبطن هذا القول، ولكنه كان يظهره أحياناً، وحفظت عنه كلمات شنيعة تدل على هذه المعتقدات، وحفظت أيضاً عن بعض أهل زمانه، فهذا القول مع شناعته يؤدي إلى هذه الأقوال الشنيعة، وقد بين الشارح ذلك على وجه الاختصار، فذكر من فروع قولهم أن فرعون صادق حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ؛ لأنه من جملة الرب، لكن أخطأ فرعون حيث خص نفسه، ولو قال: أنا وأنت وهذا وهذا كلنا الرب لكان مصيباً، فهو صادق في أنه من جملة الرب! وكذلك المشركون لما عبدوا هذا الصنم وهذا الوثن وهذا القبر فهم على صواب؛ لأنهم ما عبدوا إلا الله، ولكنهم أخطئوا لما خصصوا، ولو قالوا: إن الله في كل شيء وكل شيء من جملة الله لكانوا مصيبين، ولكنهم لما خصصوا أخطئوا.
وعلى قولهم لا يكون هناك حلال وحرام؛ لأن الجميع شيء واحد، فلا فرق عندهم بين نكاح الأم والأخت والأجنبية، كل ذلك من عين واحدة، بل هو العين الواحدة، تعالى الله عن قولهم.
وقد حفظت عن أكابرهم كلمات شنيعة يقشعر الجلد منها، فحفظ عن الحسين الحلاج أنه كان يقول: ما في الجبة إلا الله.
يعني نفسه، وعن بعضهم أنه قال: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني وحفظ عنه أنهم كانوا يمشون خلفه فالتفت، فلما رآهم يمشون خلفه قال لهم: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] تعالى الله عن قولهم! وكان بعض العلماء المتأخرين يذب عن الحلاج، ويدعي أنه من أهل العقيدة الصحيحة، وأنه موحد، ولما نقل له قوله في أبيات: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب قال: لعن الله من قال هذا.
فقيل: إنه الحلاج.
فظهر له بذلك كفره، وهذا القول المذكور من الكفر الصريح؛ فإن الناسوت الناس، واللاهوت هو الإله، يعني: أظهر ناسوته -أي: أظهر الناس- في صورة نفسه.
ويقول بعضهم -وقيل: إنه الحلاج -: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنّى يكلف تعالى الله عن قولهم، والذي أدى بهم إلى هذه الأقوال الشنيعة هو أنهم لما نفوا الصفات وجعلوا وجود الله وجوداً مطلقاً أدى بهم إلى أن يقولوا: إن ذات المخلوق حالة في ذات الخالق، وإنه عين وجود المخلوقات.
تعالى الله عن ذلك! فعلى المسلم أن يعرف نفسه، وأن يعرف أنه مخلوق، وأن الرب سبحانه وتعالى فوق عرشه بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، ويستحضر أنه سبحانه هو العليم بكل شيء، لا تخفى عليه من عباده خافية، وإذا استحضر عظمته وعلمه بكل شيء وعلمه بما توسوس به النفوس وما تكنه الصدور أوجب ذلك أن يعظمه حق التعظيم، وأن يخافه حق الخوف، ومعرفة صفات الله تعالى توجب للعارف بها أن يخاف من الله حق الخوف، وأن يعبده حق العبادة.