وَاجْتَمَعَ بِهِمْ، ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طَرَسُوسَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَفِيهَا مَاتَ، وَرَدُّوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ إِلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ، وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ بِالْكَلَامِ، فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانَهُمْ إِيَّاهُمْ -: جَهْلٌ وَظُلْمٌ، وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إِطْلَاقَهُ، أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ ضَرْبُهُ، لِئَلَّا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ! فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتِ الشَّنَاعَةُ فِي الْعَامَّةِ، وَخَافُوا،
فَأَطْلَقُوهُ. وَقِصَّتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ.
وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْجَهْمُ: أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ، وَالْكُفْرَ هُوَ الْجَهْلُ فَقَطْ، وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ أَفْعَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَمَا يُقَالُ تَحَرَّكَتِ الشَّجَرَةُ، وَدَارَ الْفَلَكُ، وَزَالَتِ الشَّمْسُ! وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً ... إِلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ
وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ؟ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ، هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا.
وَالْجَبْرِيَّةُ: أَصْلُ قَوْلِهِمْ مِنَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ طُولِهِ وَلَوْنِهِ! وَهُمْ عَكْسُ الْقَدَرِيَّةِ نُفَاةِ الْقَدَرِ، فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ إِنَّمَا نُسِبُوا إِلَى الْقَدَرِ لِنَفْيِهِمْ إِيَّاهُ، كَمَا سُمِّيَتِ الْمُرْجِئَةُ لِنَفْيِهِمُ الْإِرْجَاءَ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ مُرْجَأٌ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ " قَدَرِيَّةً " لِأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَكَمَا يُسَمَّى الَّذِينَ لَا يَجْزِمُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، بَلْ يَغْلُونَ فِي إِرْجَاءِ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْأَنْوَاعِ، فَلَا يَجْزِمُونَ بِثَوَابِ مَنْ تَابَ، كَمَا لَا يَجْزِمُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَكَمَا لَا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنٍ. وَكَانَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأُولَى يُرْجِئُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَلَا يَشْهَدُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ!!.