وفي البيت الخامس: يقول: أخذت في مسيري لمّا أبصرت حال نفسي في تأثير الصبابة فيها، ملتفتا إلى ما خلفته من الحيّ، وأرض نجد حتى وجدتني وجع «الليت»، واللّيت: بالكسر، صفحة العنق، وقيل: أدنى صفحتي العنق من الرأس عليهما، ينحدر القرطان.
والأخدع: هما أخدعان، وهما عرقان خفيان في موضع الحجامة من العنق.
قال المرزوقي: وقد قيل فيه: إن من رموزهم أنّ من خرج من بلد فالتفت وراءه، رجع إلى ذلك البلد. وانتصب «ليتا»؛ لأنه تمييز ملحوظ، محوّل عن الفاعل، ومثله:
تصببت عرقا، وقررت به عينا.
قال أبو أحمد: وقول المرزوقي إنّ من رموزهم كذا، هذا كلام واقع، وعليه شواهد من أيامنا، فما زلت أذكر آخر زيارة إلى أهلي في خان يونس حوالي سنة 1978 م، وبعد أسابيع أمضيتها في مرابع الطفولة والصبا، حان وقت الرحيل، حيث انتهت المدة التي منحها لنا الأعداء؛ لزيارة أرضنا وأهلنا، وفي فجر يوم، جاءت السيارة التي تقلنا إلى الجسر المجاور لمدينة أريحا، فكان ساعتها مشهد المودعين يخلع القلب، ويقرح الجفون، ويصدع الأكباد، لم يبق طفل، أو شيخ، أو مخبأة إلا وقف للوداع، حتى ضاق الزقاق بالمودعين، وارتفعت الأصوات، واشتد النحيب،
ومن باب الدار إلى آخر الزقاق، ما يقارب مائة ذراع، قطعناها في ساعات نخطو خطوة، ثم نقف وما كنت أدري، أيوقفني الزحام، أم تشدني الديار، فلا أحب أن أصل إلى المركبة التي تحملني إلى ديار الغربة، وما زال يرنّ في أذني صوت أختي، أم سليمان، تقول لي: تلفّت خلفك، تعيدها مرات كلما خطوت خطوات، فألتفت، فأرى البيت والأهل، وكنت أظنّ أنها تطلب مني الالتفات؛ لوداع المشيعين، وليروا طلعة ابنهم، وأخيهم، وعمهم، وخالهم، وابن عمهم، و .. فلما قرأت ما كتبه المرزوقي، عرفت السبب في طلب الالتفات؛ وذلك تفاؤلا بالعودة إليهم، والعودة إلى الديار الحبيبة. قلت: سبحان الله، هذا رمز في نجد، قلب الجزيرة، ورمز في خان يونس، في أطراف جزيرة العرب، كيف اجتمعا؟ وكيف بقي مغروسا في النفوس عشرات القرون؟ فعددت هذا رمزا لوحدة العرب في جميع بقاعهم، إنه رابط من آلاف الروابط التي لا تنفصم، ومع ذلك يصرّ الأعداء على فصم عرى الأخوة، فقسموا أوطان العرب إلى دويلات، وزعموا أن لكل إقليم خصائص متفرّدة، وهم كاذبون، وإنما أرادوا اجتثاث جذور الوحدة؛ ليحلوا محلها عادات إقليمية حديثة، وما أظنهم يقدرون